طعام القلب وشرابه لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (كتبها بقلعة دمشق في آخر عمره) قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾[سورة الأنعام: 14] (وَهُوَ يُطْعِمُ) يتناول إطعامَ الأجساد ما تأكل وتشرب، وإطعامَ القلوب والأرواح ما تغتذي به وتتقوَّتُ به من العلم والإيمان والمعرفة والذكر، وأنواع ذلك مما هو قوتٌ للقلوب، فإنه هو الذي يُقِيتُ القلوبَ بهذه الأغذية، وهو في نفسه عالمٌ لم يُعلِّمْه أحدٌ ، هادٍ لم يَهدِه أحد، متصف بجميع صفات الكمال، قيوم لا يزول، ولا يُعطيه غيرُه شيئا من ذلك. بيان ذلك ما في الصحاح من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نهاهم عن الوِصال قالوا: إنك تُواصِل، قال: «إني لست كأحدكم، إني أَبِيتُ» - ورُوي: «أَظَلُّ - عند ربي يُطعِمني ويَسقيني». وأظهر القولين عند العلماء أن مرادَه ما يُطعِمه ويَسقِيه في باطنه، من غير أن يكون أكلاً وشربًا في الفم... وقد وَصفَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالطعم والذوق والوجد والحلاوة ما في القلوب من الإيمان، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن العباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ذاقَ طعمَ الإيمان مَن رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا». فهذا ذائق طَعْمَ الإيمان، وهو ذوق بباطن قلبه، يَظهر أثرُه إلى سائر بدنِه، ليس هو ذوقًا لشيء يَدخلُ من الفم، وإن كان ذوقًا لشيء يدخل من الأذن. ولهذا يقال: البهائمُ تَسْمَنُ من أقواتِها، والآدمي يَسمن من أذنه. وفي الصحيحين عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ثلاث من كُنَّ فيه وَجَدَ حلاوةَ الإيمان، من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، ومن كان يُحبُّ المرءَ لا يُحبُّه إلاّ لله، ومن كان يكره أن يَرجع في الكفر بعدَ إذ أنقذَه الله منه، كما يكره أن يُلقَى في النار». فأخبر أن من كانت فيه هذه الثلاث وَجَدَ حلاوةَ الإيمان، والحلاوة ضدُّ المرارة، وكلاهما من أنواع الطعوم. فبيَّن أنّ الإنسان يجد بقلبه حلاوة الإيمان ويذوق طَعْمَ الإيمان، والله سبحانه هو الذي يُذِيقه طَعْمَ الإيمان، وهو الذي يجعلُه واجدًا لهذه الحلاوة. فالمؤمنون يذوقون هذا الطعم، ويجدون هذا الوجد، وفي ذلك من اللذة والسرور والبهجة ما هو أعظم من لذة أكل البدن وشربه. والرب تعالى له الكمال الذي لا يَقدِرُ العبادُ قَدْرَه في أنواع علمِه وحكمته ومحبته وفرحه وبهجته، وغير ذلك مما أخبرت به النصوص النبوية، ودلَّتْ عليه الدلائل الإلهية، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. وهو في كل ذلك غنيٌّ عن كلِّ ما سواه، فهو الذي يجعل في قلوب العباد من أنواع الأغذية والأقوات والمسارّ والفرح والبهجة مالا يجعله غيره، وهو إذا فرح بتوبة التائب فهو الذي جَعَله تائبًا حتى فَرِحَ بتوبته، لم يحتج في ذلك إلى أحدٍ سواه. والتعبيرِ بلفظ القوت والطعام والشراب ونحو ذلك عما يُقِيتُ القلوبَ ويُغذِّيها كثيرٌ جدًّا، كما قال بعضهم: أَطعمَهم طعامَ المعرفة، وسقاهم شرابَ المحبّة. وقال آخر: لها أحاديثُ من ذِكراكَ يَشغَلُها ... عن الشَرابِ ويُغْنِيها عن الزادِ وكثيرًا ما تُوصَف القلوبُ بالعطش والجوع، وتُوصفَ بالريّ والشّبَع. وفي الصحيحين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رأيتُ كأنّي أُتِيتُ بقَدَحٍ، فشربتُ حتى إني لأرى الرِّيَّ يَخرجُ من أظفاري، ثمَّ ناولتُ فَضْلِي عمرَ»، قالوا: فما أوَّلتَه يا رسولَ الله؟ قال: «العلم». فجعل العلم بمنزلة الشراب الذي يُشرَب. وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنَّ مَثلَ ما بَعثنَي الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصابَ أرضًا، فكانت منها طائفة قَبلَتِ الماءَ فانبتتِ الكلأَ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها طائفة أمسكتِ الماء، فشربَ الناس وسَقَوا وزرعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قِيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبت كلأً، فذلك مثلُ من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهَدى والعلم، ومثلُ من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به». فقد بيَّن أن مثلَ ما بعثه الله به من الهدى والعلم مثل الغيث الذي تشربه الأرض، فتُخرِج فنون الثمرات، وتمسكه أرض لتنتفع به الناس، وأرضٌ ثالثة لا تنتفع بشربه ولا تمسكه لغيرها. فتبين أن القلوب تشرب ما يُنزله الله من الإيمان والقرآن، وذلك شراب لها، كما أن المطر شراب للأرض، والأرض تَعطَش وتَروَى، كذلك القلب يعطش إلى ما ينزله الله ويَروى به. وهو سبحانه الذي يطعمه هذا الشراب، وهو سبحانه لا يطعمه أحد شيئًا، بل هو الذي يُعلِّم ولا يتعلم من غيرِه شيئًا. وفي مناجاة داود: إني ظَمِئْتُ إلى ذكرك كما تَظمأُ الإبلُ إلى الماء، أو نحو هذا، لبعد الإبل عن الماء وشدة عطشها إليه. وفي مراسلة يحيى بن معاذ لأبي يزيد لما ذكر أن من الناس من شرب براري قال أبو يزيد: لكن آخر قد سقوه بحور السماوات والأرض، وقد أدلعَ لسانَه من العطش، يقول: هل من مزيد، أو ما يشبه هذا. وقد قال القائل: شربتُ الحبَّ كأسًا بعد كأسٍ ... فما فَنِيَ الشرابُ وما رَوِيْتُ ويقال: فلان ريّان من العلم، ويقال: هذا الكلام يَشفِي العليل ويُروِي الغليل، وهذا الكلام لا يَشفِي العليل ولا يُروِي الغليل. وفي حديث مكحول المرسل: "من أخلصَ لله أربعين يومًا تفجرتينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه". وقال ابن مسعود لأصحابه : "كونوا ينابيع العلم، مصابيحَ الحكمة، أحلاسَ البيوت، سُرُجَ الليل، جُددَ القلوب، أخلاقَ الثياب، تُعْرَفون في السماء وتخفون على أهل الأرض". وقد شبّه حياة القلوب بعد موتها بحياةِ الأرض بعد موتها، وذلك بما ينزله عليها، فيسقيها وتَحيا به، وشبّه ما أنزله على القلوب بالماء الذي ينزله على الأرض، وجعل القلوب كالأودية: واديًا كبيرًا يَسعُ ماءً كثيرًا، وواديًا صغيرًا يَسَعُ ماءً قليلاً، كما قال: ﴿أَنزَلَ من السماء ماءً فَسَالَت أودية بِقَدَرِهَا﴾. وبيَّن أنه يحتمل السيل زبدًا رابيًا، وأن هذا مثل ضربه الله للحق والباطل، ﴿فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال﴾. فالأرض تشربُ ما ينفع وتحفظه، كذلك القلوب تشرب ما ينفع وتحفظه، كما ضرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله ومثل ما بعثه الله به من الهدى والعلم كغيثٍ أصاب أرضًا، فبعض الأرض قبلت الماء فشربته، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وبعض الأرض حفظته لمن يَسقِي ويزرع، وبعض الأرض قِيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تُنبت كلأً. ثم قال: «فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به». فجعل قبول القلوب بشربها وإمساكها، والأول أعلى، وهو حال من علم وعمل، والثاني حال من حفظ العلم لمن انتفع به. ولهذا قال: «فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء، فشرب الناس وسقوا وزرعوا». فالماء أثر في الأولى واختلط بها، حتى أخرجت الكلأ والعشب الكثير، وكالثانية لم تشربه لكن أمسكته لغيرها حتى شربه ذلك الغير. وهذه حال من يحفظ العلم ويؤديه إلى من ينتفع به، كما في حديث الحسن - وبعضهم يجعله من مراسيله - قال: «العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده». وبعض الناس قال: إن الأول مثل الفقهاء، والثاني مثل المحدثين. والتحقيق أن الذين سماهم فقهاء إذا كان مقصودهم إنما هو فهم الحديث وحفظ معناه وبيان ما يدل عليه، بخلاف المحدث الذي يحفظ حروفه فقط، فالنوعان مثل الممسك الحافظ المؤدي لغيره حتى ينتفع به، لكن الأول فهم من مقصود الرسول مالم يفهمه الثاني. وكذلك القرآن إذا كان هذا يحفظ حروفه، وهذا يفهم تفسيره، وكلاهما قد وعاه وحفظه وأداه إلى غيره، فهما من القسم الثاني، وإنما القسم الأول من شرب قلبُه معناه فأثر في قلبه كما أثّر الماء في الأرض الذي شربته، فحصل له به من ذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته ومحبة الله وخشيته والتوكل عليه والإخلاص له، وغير ذلك من حقائق الإيمان الذي يقتضيها الكلام، فهؤلاء كالطائفة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، ولابد أن يظهر ذلك على جوارحهم كما يظهر الكلأ والعشب. قال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقَر في القلب وصدَّقه العمل. وفي الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب». وهذا مبسوط في مواضع، مثل "كتاب الإيمان وشرح أحاديثه وآياته" وغير ذلك. والسلف كانوا يجعلون الفقيه اسمًا لهذا، والمتكلم بالعلم بدون هذا يسمونه خطيبًا، كما قال ابن مسعود: إنكم في زمنٍ كثيرٍ فقهاؤه قليلٍ خطباؤه، كثيرٍ معطوه قليلٍ سائلوه؛ وسيأتي عليكم زمانٌ كثيرٌ خطباؤه قليل فقهاؤُه، كثيرٌ سائلوه، قليلٌ مُعطوه". وفي حديث زياد بن لبيد الأنصاري لما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «هذا أوانُ يُرفع العلم»، فقال له زياد: كيف يُرفع العلمُ وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنَّه ولنُقرِئنَّه أبناءَنا ونساءَنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «إن كنتُ لأحسبك من أفقه أهل المدينة، أوَ ليست التوراة والانجيل عند اليهود والنصارى؟ فماذا يُغني عنهم؟». وقد قال الله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾. وقال تعالى: ﴿ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يَفْقَهُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يَفقَهُونَ بِهَا﴾. وفي الحديث: «خصلتان لا تكونان في منافق: حسنُ سَمْتٍ ولا فقهٌ في الدين». فإن حسن السمت صلاح الظاهر الذي يكون عن صلاح القلب، والفقه في الدين يتضمن معرفة الدين ومحبته، وذلك ينافي النفاق. وقال الكفار لشعيب: ﴿يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول﴾ مع أن شعيبًا خطيب الأنبياء. يتبع . |
وفي الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الناس معادنُ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا». وهذا إنما يكون بفهم القلب للحق، وأتباعه له. وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأتْرُجَّةِ طَعْمها طيّبٌ وريحُها طيّبٌ ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريحَ لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مرٌّ ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرّ ولا ريحَ لها». فهذا قارىء القرآن يسمعه الناس وينتفعون به وهو منافق، وقد يكون مع ذلك عالماً بتفسيره وإعرابه وأسباب نزوله، إذ لا فرق بين حفظه لحروفه وحفظه لمعانيه، لكن فهم المعنى أقرب إلى أن ينتفع الرجل به، فيؤمن به ويحبه ويعمل به، ولكن قد يكون في القلب موانع من اتباع الأهواء والحسد والحرص والاستكبار، التي تَصُدُّ القلب عن اتباع الحق، قال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ الله الصم البكم الذين لا يعقلون . ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون﴾. فهؤلاء لا خير فيهم يقبلون الحق به إذا فهموا القرآن، فهو سبحانه لا يُفهِمهم إياه، ولو علم فيهم خيرًا لأفهمهم إياه، ولما لم يكن فيهم خير فلو أفهمهم إياه لتولّوا وهم معرضون، فيحصل لهم نوع من الفهم الذي يعرفون به الحق، لكن ليس في قلوبهم قصدٌ للخير والحق وطلبٌ له، فلا يعملون بعلمهم ولا يتبعون الحق. وقد بسط الكلام على هذا في مواضع، وبُيِّن أن مثلَ هذا العلم والفهم الذي لا يقترن به العمل بموجبه لا يكون تامًّا، ولو كان تامًّا لاستلزم العمل، فإن التصوِر التام للمحبوب يستلزم حبَّه قطعًا، والتصوّر التام للمخوف يوجب خوفه قطعًا، فحيث حصل نوع من التصور ولم تحصل المحبة والخوف لم يكن التصور تامًّا. قال بعض السلف: من عرف الله أحبَّه. ولهذا قال السلف: كل من عصى الله فهو جاهل. وقال ابن مسعود وغيره: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلاً. وقيل للشعبي: أيها العالم! فقال: إنما العالم من يخشى الله. وهذا مبسوط في مواضع. ولهذا قال تعالى: ﴿هُدًى للمتقينَ﴾، وقال: ﴿ليُنذِرَ مَن كاَنَ حَيًا﴾، وقال: ﴿سَيَذكرُ مَن يخشَى﴾ ، إلى أمثال ذلك. ولهذا يجعل الرسول نفس الفقه موجبًا للسعادة، كما يجعل عدمَه موجبًا للشقاء، ففي الصحيحين أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا». فجعل مسمى الفقه موجبًا لكونهم خيارًا، وذلك يقتضي أن العمل داخل في مسمى الفقه لازم له. وفي الصحيحين أنه قال: «من يرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين»، فمن لم يفقّهه في الدين لم يُرِد به خيرًا، فلا يكون من أهل السعادة إلاّ من فقّهه في الدين. والدين يتناول كلَّ ما جاء به الرسول، كما في الصحيحين لما جاء جبريل في صورة أعرابي، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: «هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم». فجعل هذا كلَّه دينًا. والمقصود هنا كان الكلام في أن الله يُطعِم القلوب ويسقيها، وقد قال الله تعالى في حق عُبَّاد العجل: ﴿وأشربوا في قلوبهم العجل﴾ ، أي أُشرِبوا حُبَّه. فإذا كان المخلوق الذي لا تجوز به محبته قد يحبه القلب حبًّا يجعل ذلك شرابًا للقلب، فحب الربّ تعالى أن يكون شرابًا يشربه قلوب المؤمنين أولى وأحرى. قال تعالى: ﴿ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله﴾. ووَصْفُ الشعراءِ وغيرهم أن القلوب تشربُ المحبة، وضَرْبُهم المثلَ في ذلك بالشراب الطاهر، وأن شرب المحبة أعلى الشرابين كثير جدًّا. وهو سبحانه الذي يُطعِم عباده المؤمنين، ويسقيهم شراب معرفته ومحبته والإيمان به، وهو غني عن جميع خلقه في معرفته ومحبته وإيمانه - إذ كان من أسمائه "المؤمن" -، وفي توحيده وشهادته وسائر شئونه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا. وأهل الشرك الذين يعبدون غير الله ومن ضاهاهم من أهل البدع، الذين اتخذوا من دون الله أوثانا يحبونهم كحبّ الله، لهم شراب من محبتهم وذوق ووجد، لكن ذلك من عبادة الشيطان لا من عبادة الرحمن، فلهذا وقعت باطلاً. فإن البدن كما يتغذى بالطيب والخبيث، كذلك القلوب تتغذى بالكلم الطيب والعمل الصالح، وتتغذى بالكلم الخبيث والعمل الفاسد، ولها صحة ومرض، وإذا مرضت اشتهتْ ما يضرها وكرهتْ ما ينفعها. وقد ضرب الله مثل الإيمان الذي هو كلمة طيِبة بشجرة طيبة، ومثل الشرك الذي هو كلمة خبيثة بشجرة خبيثة، فهذا أصله كلمة طيبة في قلبه وهي كلمة التوحيد، وهذا أصله كلمة خبيثة في قلبه وهي كلمة الشرك؛ فهذا يتغذى بهذه الكلمة الطيبة، وهذا يتغذى بهذهالكلمة الخبيثة، كما تتغذى الأبدان بالطيب والخبيث. قال تعالى: ﴿يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً﴾، وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾. فالتوحيد والإيمان كلمة طيبة، مثلها مثل الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ والشرك والكفر كلمة خبيثة اجتُثَّتْ من فوق الأرض مالها من قرار، ليس لها أصلٌ راسخ ولا فرع باسق. ولهذا كان أهل الشرك والضلال لهم مواجيد وأذواق وأعمال بحسب ذلك، لكنها باطلة لا تنفع، إذ هم في جهل بسيط يعملون بهواهم بلا اعتقادٍ ونظرٍ ، أو في جهلٍ مركب يحسبون أنهم على هدى وهم على ضلال، والمؤمنون يعملون بعلم وهدًى من الله. ولهذا قال تعالى: ﴿الله نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ والأرض مثل نوره كمشكاة﴾ الآية إلى قوله: ﴿نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم﴾. ثم قال: ﴿في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه﴾ إلى آخر الآية. ثم ضرب للكفار مثلين للجهل المركب والبسيط فقال: ﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا﴾ الآية. فهذا مثل الجهل المركب، وهو الاعتقاداتالفاسدة. ثم قال: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾. وهذا مثل الجهل البسيط. المقصود هنا أنّ الرب تعالى هو الذي يُقيت عباده، ويغذيهم لأرواحهم وأجسادهم، وهو مستغنٍ عن عبادِه من كل وجهٍ ، فهوبنفسه عالم قادر، وكلُّ ما يعلمه العباد فهو من تعليمه وهدايته، وما يقدرون عليه فهو من إقدارِه. وهو سبحانه وتعالى كما قال: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيء من علمِه إلا بما شاء﴾، وهو الذي خلق فسوى، وقدر فهدى... والله أعلم، الحمد لله وحده. |
الإنسان بين الملَك والشيطان للإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله من عقوبة المعصية أنها تُباعد عن العبد وليه وأنفع الخلق له وأنصحهم له، ومن سعادته في قربه منه، وهو الملَك الموكل به، وتدني منه عدوه وأغش الخلق له، وأعظمهم ضررا له، وهو الشيطان؛ فإن العبد إذا عصى الله تباعد منه الملك بقدر تلك المعصية، حتى إنه يتباعد منه بالكذبة الواحدة مسافة بعيدة. وفي بعض الآثار: إذا كذب العبد تباعد منه الملك ميلا من نتن ريحه، فإذا كان هذا تباعد الملك منه من كذبة واحدة، فماذا يكون مقدار بعده منه مما هو أكبر من ذلك، وأفحش منه؟ وقال بعض السلف: إذا رُكب الذكر عجّت الأرض إلى الله وهربت الملائكة إلى ربها، وشكت إليه عظيم ما رأت. وقال بعض السلف: إذا أصبح ابن آدم ابتدره الملك والشيطان، فإن ذكر الله وكبره وحمده وهلله، طرد الشيطان وتولاه الملك، وإن افتتح بغير ذلك ذهب الملك عنه وتولاه الشيطان. ولا يزال الملك يقرب من العبد حتى يصير الحكم والطاعة والغلبة له، فتتولاه الملائكة في حياته وعند موته وعند بعثه، كما قال الله تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ? نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ? [سورة فصلت: 30 - 31] . وإذا تولاه الملك تولاه أنصح الخلق وأنفعهم وأبرهم، فثبته وعلمه، وقوى جنانه، وأيده الله تعالى: ? إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ? [سورة الأنفال: 12] . فيقول الملك عند الموت: لا تخف ولا تحزن وأبشر بالذي يسرك، ويثبته بالقول الثابت أحوج ما يكون إليه في الحياة الدنيا، وعند الموت، وفي القبر عند المسألة. فليس أحد أنفع للعبد من صحبة الملك له، وهو وليه في يقظته ومنامه، وحياته وعند موته وفي قبره، ومؤنسه في وحشته، وصاحبه في خلوته، ومحدثه في سره، ويحارب عنه عدوه، ويدافع عنه ويعينه عليه، ويعده بالخير ويبشره به، ويحثه على التصديق بالحق، كما جاء في الأثر الذي يروى مرفوعا وموقوفا: «إن للملك بقلب ابن آدم لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك: إيعاد بالخير وتصديق بالوعد، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق» . وإذا اشتد قرب الملك من العبد تكلم على لسانه، وألقى على لسانه القول السديد، وإذا بعد منه وقرب الشيطان، تكلم على لسانه، وألقى عليه قول الزور والفحش، حتى يرى الرجل يتكلم على لسانه الملك والرجل يتكلم على لسانه الشيطان وفي الحديث: «إن السكينة تنطق على لسان عمر» - رضي الله عنه - وكان أحدهم يسمع الكلمة الصالحة من الرجل الصالح فيقول: ما ألقاه على لسانك إلا الملك، ويسمع ضدها فيقول: ما ألقاها على لسانك إلا الشيطان، فالملك يلقي بالقلب الحق ويلقيه على اللسان، والشيطان يلقي الباطل في القلب ويجريه على اللسان. فمن عقوبة المعاصي أنها تبعد من العبد وليه الذي سعادته في قربه ومجاورته وموالاته، وتدني منه عدوه الذي شقاؤه وهلاكه وفساده في قربه وموالاته، حتى إن الملك لينافح عن العبد، ويرد عنه إذا سفه عليه السفيه وسبه، كما اختصم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلان، فجعل أحدهما يسب الآخر وهو ساكت، فتكلم بكلمة يرد بها على صاحبه، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله لما رددت عليه بعض قوله قمت، فقال: «كان الملك ينافح عنك، فلما رددت عليه جاء الشيطان فلم أكن لأجلس» . وإذا دعا العبد المسلم لأخيه بظهر الغيب أمن الملك على دعائه، وقال: «ولك بمثل». وإذا فرغ من قراءة الفاتحة أمنت الملائكة على دعائه. وإذا أذنب العبد الموحد المتبع لسبيله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - استغفر له حملة العرش ومن حوله. وإذا نام العبد على وضوء بات في شِعارِهِ ملك. فملك المؤمن يرد عنه ويحارب ويدافع عنه، ويعلّمه ويثبّته ويشجعه، فلا يليق به أن يسيء جواره ويبالغ في أذاه وطرده عنه وإبعاده، فإنه ضيفه وجاره. وإذا كان إكرام الضيف من الآدميين والإحسان إلى الجار من لوازم الإيمان وموجباته، فما الظن بإكرام أكرم الأضياف، وخير الجيران وأبرهم؟ وإذا آذى العبد الملك بأنواع المعاصي والظلم والفواحش دعا عليه ربه، وقال: لا جزاك الله خيرا، كما يدعو له إذا أكرمه بالطاعة والإحسان. قال بعض الصحابة - رضي الله عنهم -: إن معكم من لا يفارقكم، فاستحيوا منهم وأكرموهم. ولا ألأم ممن لا يستحي من الكريم العظيم القدر، ولا يجله ولا يوقره، وقد نبه سبحانه على هذا المعنى بقوله: ? وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ? كِرَامًا كَاتِبِينَ ? يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ? [سورة الانفطار: 10 - 12] أي استحيوا من هؤلاء الحافظين الكرام وأكرموهم، وأجلوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يراكم عليه من هو مثلكم، والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصي بين يديه، وإن كان يعمل مثل عمله، فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟ والله المستعان. نقله لكم www.aborashed.com من كتاب "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" أو "الداء والدواء" ص 106 |
الكلام في السياسة
في 1/13/2012 10:06:00 م الكلام في السياسة لفقيه الزمان العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله ليس لعامة الناس أن يلوكوا ألسنتهم بسياسة ولاة الأمور، السياسة لها أناس والصحون والقدور لها أناس آخرون، ولو أن السياسة صارت تلاك بين ألسن عامة الناس فسدت الدنيا؛ لأن العامي ليس عنده علم، وليس عنده عقل، وليس عنده تفكير، وعقله وفكره لا يتجاوز قدمه، ويدل لهذا قول الله تعالى: ? وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ? ونشروه، قال تعالى: ? وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ? دل هذا على أن العامة ليسوا كأولي الأمر وأولي الرأي والمشورة، فليس الكلام في السياسة من المجالات العامة، ومن أراد أن تكون العامة مشاركة لولاة الأمور في سياستها وفي رأيها وفكرها فقد ضل ضلالاً بعيداً وخرج عن هدي الصحابة وهدي الخلفاء الراشدين وهدي سلف الأمة. [شرح رياض الصالحين ( 6 / 225 )] وسئل رحمه الله : فضيلة الشيخ: يكثر في بعض المجالس الكلام عن السياسة، وعندما تنكر عليهم، يقولون: السياسة من الدين. بل إنهم يقعون في الغيبة، وما يميز مجلسهم هو وجود ذكر الله فيه، فما رأيك في جلوسي معهم؟ الجواب أنا رأيي: أن الكلام في السياسة في عامة الناس خطأ؛ لأن السياسة لها رجال وأقوام، رجالها ذوو السلطة والحكم، أما أن تكون السياسة منثورة بين أيدي العوام وفي المجالس، فهذا خلاف هدي السلف الصالح ، فما كان عمر بن الخطاب ومن قبله كأبي بكر رضي الله عنهما يبثون سياستهم في مجامع الناس يذوقها الصغير والكبير والسفيه والعاقل، أبداً! ولا يمكن أن تكون السياسة هكذا، السياسة لها أقوام متمرسون فيها يعرفونها ويعرفون مداخلها، ولهم اتصال بالخارج، واتصال بالداخل، لا يعرفه كثير من الناس. ولا ينبغي للشباب وغير الشباب أن يمضوا أوقاتهم ويضيعوها في مثل هذا القيل والقال الذي لا فائدة منه، ثم إنه قد يبدو لنا مثلاً أن صنيع واحد من الناس خطأ وقد يكون الصواب معه؛ لأنه يعلم من الأمور ما لا نعلم نحن، وهذا شيء مشاهد مجرب، وغالب الذين يتكلمون بالسياسة إنما يستنتجونها من أشياء لا أصل لها ولا حقيقة لها، وإنما هي أوهام يتوهمونها ثم يبنون عليها ما يتكلمون به، فيقفون ما ليس لهم به علم، وقد قال الله تعالى: ? وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ? [الإسراء:36]. أما الجلوس معهم فما داموا على ذكر فاجلس معهم، وإذا قاموا يخوضون هذا الخوض الذي لا فائدة فيه فانصحهم أولاً، فإن اهتدوا فهذا هو المطلوب، وإلا ففارقهم، ثم إذا كان حضورك مجالسهم التي للذكر يؤدي إلى أن يغتروا بأنفسهم أو أن يغتر بمجيئك إليهم غيرهم فيقال: لولا أن هؤلاء على خير ما جاء إليهم فلان ولا فلان، فلا تأتي إليهم أيضاً حتى للذكر؛ لأن أبواب الذكر -والحمد لله- كثيرة.[لقاء الباب المفتوح رقم 96] وسئل رحمه الله : مما ينتشر عند كثير من الشباب ما يسمى بمفهوم العمل السياسي، فلا أدري ما هو الحد الذي ورد به الشرع ويجوز فيه الخوض في هذه الأمور السياسية، وما هو الضابط الشرعي لهذا الأمر؟ الجواب السياسة بارك الله فيك، كل الدين سياسة؛ لأن السياسة مأخوذة من عمل السائس، والسائس هو مدير الحيوان والقائم عليه، كسائس الأسد والفيلة وما أشبه ذلك، ومعلوم أن الشريعة كلها سياسة، سياسة للخلق فيما يتعلق بعبادة الخالق، وسياسة للخلق فيما يتعلق بمعاملة الناس، وسياسة للخلق فيما يتعلق بتدبير الأمور وتصنيفها. ومن المعلوم أن السياسة التي تدير الأمور وتدير تصريفها لا يمكن أن تكون بيد كل أحد، ولا تحت طوع كل إنسان، ولو كانت كذلك للزم أن كل واحد من الأمة يكون أميراً على نفسه وعلى غيره أيضاً، ومن المعلوم أنه منذ زمن الخلفاء الراشدين والسياسة وتدبير الأمة لها أناس خاصون، الخليفة ومن يختارهم ليكونوا مستشارين له، وليست السياسة تلقى في الأسواق ومجاميع العامة، ويقال: ما تقولون في كذا؟ ما تقولون في كذا؟ ولاشك أن الذين يتخبطون في هذه الأمور أنهم على خلاف مذهب السلف، وأنهم لا يثيرون إلا البلبلة، وصد الناس عما هو أهم من ذلك بكثير. أرأيت مثلاً: العقول السرية، وأحوال الحرب، وشئون العلاقات الخارجية مع الناس، هل يليق أي عقل من عقول بني آدم أن تطرح في الأسواق بين أيدي العامة؟! الإنسان في بيته لا يمكن أن يطلع الناس على ما في بيته، كيف مثلاً: حكومة تطلع الناس على كل ما تفعل، أو تخبرهم بكل ما تريد، من قال هذا، بأي كتاب أم بأي سنة، أم بأي عمل من أعمال الخلفاء الراشدين؟!! هل كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أراد شيئاً ذهب إلى الأسواق يقول: إني أريد أن أفعل كذا وكذا، بل كان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها وهي غزوة يستعد الناس لها، إلا في تبوك. فأمور السياسة العامة لا تكون بأيدي العامة ولا بألسنتهم، ومن رام ذلك فقد رام أمراً لا يمكن لأي عاقل أن يقوله إطلاقاً، هل يمكن أن نطلع العامي الذي يبيع الخضرة واللحم والخبز وما أشبه ذلك على أسرار الدولة وملفاتها؟! من قال هذا؟! فنصيحتي لهؤلاء الذين ابتلاهم الله تعالى بمثل هذه الأمور: أن يراجعوا أنفسهم، ويعلموا أنه ليس من الحكمة أن كل شيء تفعله الدولة يكون بين أيدي الناس، هناك أشياء تدبرها الدولة قد يكون ظاهرها للبسطاء من الناس قد يكون ظاهرها غير صحيح، لكن عند العارفين بالأسباب والنتائج يكون صحيحاً أليس النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية راجعه من راجعه من الصحابة وهم أكبر العقول ولم يعلموا النتيجة؟!! وأنا لست أريد أن ألحق حكام الأمة الإسلامية اليوم بالرسول عليه الصلاة والسلام من حيث النصر للأمة والإرشاد والرشاد؟ لا، لكني أقول: إن مسائل الدولة مسائل خاصة بأناس معينين ليس لكل أحد. فأنا أنصحك أنت وأطلب منك أن تؤدي هذه النصيحة إلى كل من تكلموا في هذه الأمور أن يشتغلوا بما هو أهم، ويسألوا الله التوفيق للدولة. [لقاء الباب المفتوح رقم 96] نقله لكم www.aborashed.com |
روح كلمة التوحيد وسرها
للإمام ابن قيّم الجوزية إذا كان الحب أصل كل عمل من حق وباطل، فأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله، كما أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله، وكل إرادة تمنع كمال الحب لله ورسوله وتزاحم هذه المحبة أو شبهة تمنع كمال التصديق، فهي معارضة لأصل الإيمان أو مضعفة له، فإن قويت حتى عارضت أصل الحب والتصديق كانت كفرا أو شركا أكبر، وإن لم تعارضه قدحت في كماله، وأثرت فيه ضعفا وفتورا في العزيمة والطلب، وهي تحجب الواصل، وتقطع الطالب، وتنكس الراغب، فلا تصح الموالاة إلا بالمعاداة كما قال تعالى عن إمام الحنفاء المحبين أنه قال لقومه: ? قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ? أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ? فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ? [سورة الشعراء: 75 - 77] . فلم يصح لخليل الله هذه الموالاة والخلة إلا بتحقيق هذه المعاداة، فإنه لا ولاء إلا بالبراءة من كل معبود سواه، قال تعالى: ? قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه ? [سورة الممتحنة: 4] . وقال تعالى: ? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ? إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ? وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ? [سورة الزخرف: 26 - 28] . أي جعل هذه الموالاة لله، والبراءة من كل معبود سواه كلمة باقية في عقبه يتوارثها الأنبياء وأتباعهم بعضهم عن بعض وهي كلمة: لا إله إلا الله، وهي التي ورثها إمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة. كلمة التوحيد وهي الكلمة التي قامت بها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد، وهي محض حق الله على جميع العباد، وهي الكلمة العاصمة للدم والمال والذرية في هذه الدار، والمنجية من عذاب القبر وعذاب النار، وهي المنشور الذي لا يدخل الجنة إلا به، والحبل الذي لا يصل إلى الله من لم يتعلق بسببه، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وبها انقسم الناس إلى شقي وسعيد، ومقبول وطريد، وبها انفصلت دار الكفر من دار الإيمان، وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان، وهي العمود الحامل للفرض والسنة، و «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» . روح كلمة التوحيد وروح هذه الكلمة وسرها: إفراد الرب - جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، وتبارك اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره - بالمحبة والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء وتوابع ذلك: من التوكل والإنابة والرغبة والرهبة، فلا يحب سواه، وكل ما كان يحب غيره فإنما يحب تبعا لمحبته، وكونه وسيلة إلى زيادة محبته، ولا يخاف سواه، ولا يرجى سواه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب إلا إليه، ولا يرهب إلا منه، ولا يحلف إلا باسمه، ولا ينظر إلا له، ولا يتاب إلا إليه، ولا يطاع إلا أمره، ولا يتحسب إلا به، ولا يستغاث في الشدائد إلا به، ولا يلتجأ إلا إليه، ولا يسجد إلا له، ولا يذبح إلا له وباسمه، ويجتمع ذلك في حرف واحد، وهو: أن لا يعبد إلا إياه بجميع أنواع العبادة، فهذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، ولهذا حرم الله على النار من شهد أن لا إله إلا الله حقيقة الشهادة، ومحال أن يدخل النار من تحقق بحقيقة هذه الشهادة وقام بها، كما قال تعالى: ? وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ? [سورة المعارج: 33] . فيكون قائما بشهادته في ظاهره وباطنه، في قلبه وقالبه، فإن من الناس من تكون شهادته ميتة، ومنهم من تكون نائمة، إذا نبهت انتبهت، ومنهم من تكون مضطجعة، ومنهم من تكون إلى القيام أقرب، وهي في القلب بمنزلة الروح في البدن، فروح ميتة، وروح مريضة إلى الموت أقرب، وروح إلى الحياة أقرب، وروح صحيحة قائمة بمصالح البدن. وفي الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت إلا وجدت روحه لها روحا» فحياة هذه الروح بحياة هذه الكلمة فيها، فكما أن حياة البدن بوجود الروح فيه، وكما أن من مات على هذه الكلمة فهو في الجنة يتقلب فيها، فمن عاش على تحقيقها والقيام بها فروحه تتقلب في جنة المأوى وعيشه أطيب عيش، قال تعالى: ? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ? فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ? [سورة النازعات: 40 - 41] . نقله لكم www.aborashed.com من كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (الداء الدواء) ص 195 |
خفيُّ الشرك في قلوبنا
في 12/30/2011 03:41:00 م خفيُّ الشرك في قلوبنا للحافظ ابن رجب الحنبلي إنَّ تحقق القلب بمعنى « لا إله إلا الله » وصدقه فيها، وإخلاصه بها يقتضي أنْ يرسخَ فيه تألُّهُ الله وحده، إجلالاً، وهيبةً، ومخافةً، ومحبَّةً، ورجاءً، وتعظيماً، وتوكُّلاً، ويمتلئَ بذلك، وينتفيَ عنه تألُّه ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك، لم يبقَ فيه محبَّةٌ، ولا إرادةٌ، ولا طلبٌ لغير ما يُريدُهُ الله ويحبُّه ويطلبه، وينتفي بذلك مِنَ القلب جميعُ أهواءِ النُّفوس وإراداتها، ووسواس الشيطان، فمن أحب شيئاً وأطاعه، وأحبَّ عليه وأبغض عليه، فهو إلههُ، فمن كان لا يحبُّ ولا يبغضُ إلا لله، ولا يُوالي ولا يُعادي إلا له، فالله إلههُ حقاً، ومن أحبَّ لهواه، وأبغض له، ووالى عليه، وعادى عليه، فإلهه هواه، كما قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾. قالَ الحسن: هوَ الذي لا يهوى شيئاً إلا ركبه. وقال قتادة: هوَ الذي كلما هَوِيَ شيئاً ركبه، وكلما اشتهى شيئاً أتاه، لا يَحجزُه عن ذلك ورعٌ ولا تقوى. ويُروى من حديث أبي أمامة مرفوعاً : « ما تحتَ ظلِّ السماء إلهٌ يُعبد أعظم عندَ الله من هوى متَّبع » . وكذلك مَنْ أطاعَ الشيطان في معصية الله، فقد عبده، كما قال الله - عز وجل - : ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾. فتبيَّن بهذا أنَّه لا يصحُّ تحقيقُ معنى قولِ: لا إله إلا الله، إلاَّ لمن لم يكن في قلبه إصرارٌ على محبة ما يكرهه الله، ولا على إرادة ما لا يُريده الله، ومتى كان في القلب شيءٌ مِنْ ذلك، كان ذلك نقصاً في التوحيد، وهو مِنْ نوع الشِّرك الخفيِّ. ولهذا قال مجاهدٌ في قوله تعالى: ﴿ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ﴾ قال: لا تحبُّوا غيري. وفي "صحيح الحاكم" عن عائشة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: « الشِّركُ أخفى من دبيب الذَّرِّ على الصَّفا في الليلة الظَّلماء، وأدناه أنْ تُحِبَّ على شيءٍ مِنَ الجَوْرِ، وتُبغِضَ على شيءٍ مِنَ العدل، وهل الدِّينُ إلا الحبّ والبغض؟ قال الله - عز وجل -: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ ».[ضعفه الدارقطني، وشطره الأول صحيح] وهذا نصٌّ في أنَّ محبةَ ما يكرهه الله، وبغضَ ما يُحبه متابعةٌ للهوى، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفيّ. وخرَّج ابن أبي الدُّنيا من حديث أنس مرفوعاً: « لا تزالُ لا إله إلا الله تمنعُ العبادَ مِنْ سخط الله، ما لم يُؤْثِروا دُنياهم على صَفقةِ دينهم، فإذا آثرُوا صفقةَ دُنياهم على دينهم، ثم قالوا: لا إله إلا الله رُدَّتْ عليهم، وقال الله: كذبتم » [إسناده ضعيف]. فتبيَّن بهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: « من شهد أنْ لا إله إلا الله صادقاً من قلبه حرَّمه الله على النار » [إسناده صحيح]، وأنَّ من دخل النارَ من أهل هذه الكلمة، فَلِقِلَّةِ صدقه في قولها، فإنَّ هذه الكلمة إذا صدقت، طهَّرت من القلب كلَّ ما سوى الله، فمن صدق في قوله: لا إله إلا الله، لم يُحبَّ سواه، ولم يَرْجُ إلاَّ إيَّاه، ولم يخشَ أحداً إلاَّ الله، ولم يتوكَّل إلاَّ على الله، ولم تبقَ له بقيَّةٌ من آثار نفسه وهواه، ومتى بقي في القلب أثرٌ لسوى الله، فمن قلَّة الصدق في قولها. ______________ فائدة: عن ابن عباس رضي الله عنهما ، في قول الله عز وجل : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون } قال: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها "فلان". هذا كله به شرك. [تفسير ابن كثير ( 1 / 196 )] نقله لكم www.aborashed.com من كتاب "جامع العلوم والحكم" ( 2 / 626 ) |
مراتب الناس في التوكل للإمام ابن قـيّم الجوزية رحمه الله «التوكل» نصف الدين، والنصف الثاني: «الإنابة»، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل: هو الاستعانة، والإنابة: هي العبادة. ومنزلته: أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين، لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العاملين، وعموم التوكل، ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار والفجار والطير والوحش والبهائم، فأهل السموات والأرض - المكلفون وغيرهم - في مقام التوكل وإن تباين متعلق توكلهم. فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في حصول ما عليه في الإيمان، ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابه، وتنفيذ أوامره. ودون هؤلاء من يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله، فارغا عن الناس. ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله منه من رزق، أو عافية، أو نصر على عدو، أو زوجة، أو ولد ونحو ذلك. ودون هؤلاء من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش؛ فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالبا إلا باستعانتهم بالله، وتوكلهم عليه، بل قد يكون توكلهم أقوى من توكل كثير من أصحاب الطاعات، ولهذا يلقون أنفسهم في المتالف والمهالك معتمدين على الله أن يسلمهم، ويظفرهم بمطالبهم. فأفضل التوكل: التوكل في الواجب؛ أعني واجب الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس. وأوسعه وأنفعه: التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم. ثم الناس بعدُ في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم؛ فمن متوكل على الله في حصول الْمُلك، ومن متوكل في حصول رغيف. ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله، فإن كان محبوباً له مرضياً كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطاً مبغوضاً كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه، وإن كان مباحا حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه إن لم يستعن به على طاعاته، والله أعلم. وكثير من المتوكلين يكون مغبونا في توكله، وقد توكل حقيقة التوكل، وهو مغبون؛ كمن صرف توكله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله، ويُمكنه نيلها بأيسر شيء، وتفريغ قلبه للتوكل في زيادة الإيمان والعلم ونصرة الدين والتأثير في العالم خيراً، فهذا توكل العاجز القاصر الهمة، كما يصرف بعضهم همته وتوكله ودعاءه إلى وجع يمكن مداواته بأدنى شيء، أو جوع يمكن زواله بنصف رغيف، أو نصف درهم، ويدع صرفه إلى نصرة الدين، وقمع المبتدعين، وزيادة الإيمان، ومصالح المسلمين، والله أعلم. نقله لكم www.aborashed.com من كتاب مدار السالكين بين منازل {إياك نعبد وإياك نستعين} (1 / 521 ) |
مختارات من أحسن ما قيل في مهمات الدين من كتب السلف
فنون التوكل للإمام أحمد بن قدامة المقدسي ت (689ه) قد يظن بعض الناس أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة، وكلحم على وضم، وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع. والشرع قد أثنى على المتوكلين، وإنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه إلى مقاصده، وسعى العبد إما أن يكون لجلب نفع مفقود كالكسب، أو حفظ موجود كالادخار، وإما لدفع ضرر لم ينزل، كدفع الصائل، أو لإزالة ضرر قد نزل، كالتداوي من المرض، فحركات العبد لا تعدو هذه الفنون الأربعة: الفن الأول : في جلب المنافع ، فنقول : الأسباب التي بها تجلب المنافع على ثلاث درجات: أحدها : سبب مقطوع به كالأسباب التي ارتبطت بها المسببات بتقدير الله تعالى ومشيئته ارتباطاً مطرداً لا يختلف، مثاله: أن يكون الطعام بين يديك وأنت جائع، فلا تمد يدك إليه وتقول: أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي، ومد اليد إلى الطعام سعى، وكذلك مضغه وابتلاعه، فهذا جنون محض، وليس من التوكل في شيء، فإنك إذا انتظرت أن يخلق الله فيك شبعاً دون أكل الطعام، أو يخلق في الطعام حركة إليك، أو يسخر ملكاً ليمضغه ويوصله إلى معدتك، فقد جهلت سنة الله. وكذلك لو لم تزرع، وطمعت أن يخلق الله تعالى نباتاً من غير بذر، أو تلد الزوجة من غير وقاع، فكل ذلك جنون، وليس التوكل في هذا المقام ترك العمل، بل التوكل فيه بالعلم والحال. أما العلم : فهو أن تعلم أن الله تعالى خلق الطعام، واليد، والأسباب، وقوة الحركة، وأنه الذي يطعمك ويسقيك. وأما الحال، فهو أن يكون قلبك واعتمادك على فضل الله تعالى، لا على اليد والطعام، لأنه ربما جفت يدك، وبطلت حركتك، وربما سلط الله عليك من يغلبك على الطعام، فمد اليد إلى الطعام لا ينافي التوكل. الدرجة الثانية : الأسباب التي ليست متيقنة، لكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها. مثاله: من يفارق الأمصار، ويخرج مسافرا إلى البوادي التي لا يطرقها الناس إلا نادراً، ولا يستصحب معه شيئاً من الزاد، فهذا كالمجرب على الله تعالى، وفعله منهي عنه، وحمله للزاد مأمور به، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سافر تزود واستأجر دليلاً إلى المدينة. الدرجة الثالثة : ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة، كالذي يستقصي في التدبيرات الدقيقة في تفصيل الاكتساب ووجوهه، فمتى كان قصده صحيحاً وفعله لا يخرج عن الشرع، لم يخرج عن التوكل، لكنه ربما دخل في أهل الحرص إذا طلب فضول العيش. وترك التكسب ليس من التوكل في شئ، إنما هو من فعل البطالين الذين آثروا الراحة، وتعللوا بالتوكل. قال عمر رضي الله عنه: "المتوكل الذي يلقى حبه في الأرض ويتوكل على الله". الفن الثاني : في التعرض للأسباب بالادخار، ومن وجد قوتاً حلالاً يشغله كسب مثله عن جمع همه، فادخاره إياه لا يخرجه عن التوكل، خصوصاً إذا كان له عائلة. وفى"الصحيحين" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، « أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَيَحْبِسُ لأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ » [البخاري: 5357]. فإن قيل: فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً أن يدخر، فالجواب: أن الفقراء كانوا عنده كالضيف، فما كان ينبغي أن يدخر فيجوعون، بل الجواب: أن حال بلال وأمثاله من أهل الصفة كان مقتضاها عدم الادخار، فإن خالفوا كان التوبيخ على الكذب في دعوى الحال لا على الادخار الحلال. الفن الثالث : مباشرة الأسباب الدافعة للضرر . ليس من شرط التوكل ترك الأسباب الدافعة للضرر، فلا يجوز النوم في الأرض المسبعة أو مجرى السيل، أو تحت الجدار الخراب، فكل ذلك منهي عنه. وكذلك لا ينقض التوكل لبس الدرع، وإغلاق الباب، وشد البعير بالعقال. وقال الله تعالى ? وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ? [ النساء : 102 ] . وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: « اعقلها وتوكل ». ويتوكل في ذلك كله على المسبب لا على السبب، ويكون راضيا بكل ما يقضى الله عليه ومتى عرض له إذا سرق متاعه أنه لو احترز لم يسرق، أو أخذ يشكو ما جرى عليه، فقد بان بعده عن التوكل. وليعلم أن القدر له كالطبيب، فإن قدم إليه الطعام فرح، وقال: لولا أنه علم أن الغذاء ينفعني ما قدمه، وإن منعه فرح، وقال: لولا أنه علم أن الغذاء يؤذيني لما منعني. واعلم : أن كل من لا يعتقد في لطف الله تعالى ما يعتقده المريض في الطبيب الحاذق الشفيق، لم يصح توكله، فإن سرق متاعه رضي بالقضاء، وأحلّ الآخذ، شفقة على المسلمين. فقد شكا بعض الناس إلى بعض العلماء أنه قطع عليه الطريق، وأخذ ماله، فقال: إن لم يكن غمك كيف صار في المسلمين من يفعل هذا أكثر من غمك بمالك، فما نصحت المسلمين. الفن الرابع : السعي في إزالة الضرر، كمداواة المريض ونحو ذلك . اعلم : أن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى ثلاثة أقسام : إلى مقطوع به ، كالماء المزيل لضرر العطش، والخبز المزيل لضرر الجوع، فهذا القسم ليس تركه من التوكل في شئ . القسم الثاني : أن يكون مظنوناً، كالفصد، والحجامة، وشرب المسهل، ونحو ذلك. فهذا لا يناقض التوكل، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تداوى وأمر بالتداوى. وقد تداوى خلق كثير من المسلمين، وامتنع عنه أقوام توكلاً، كما روى عن أبى بكر الصديق رضي الله عنه أنه قيل له: ألا ندعو لك طبيباً ؟ فقال: رآني الطبيب. قيل: فما قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد. والذي ننصره أن التداوي أفضل، وتحمل حال أبى بكر رضي الله عنه أنه قد تداوى ثم أمسك بعد انتفاعه بالدواء، أو يكون قد علم قرب أجله بأمارات. واعلم : أن الأدوية أسباب مسخرة بإذن الله تعالى . القسم الثالث : أن يكون السبب موهوماً، كالكي، فيخرج عن التوكل، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف المتوكلين بأنه لا يكتوون. وقد حمل بعض العلماء الكي المذكور في قوله : « لاَ يَكْتَوُونَ » على ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، فإنهم كانوا يكتوون ويسترقون في زمن العافية لئلا يمرضوا، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرقى الرقية بعد نزول المرض، وقد كوى أسعد بن زرارة رضي الله عنه. وأما شكوى المريض، فهي مخرجة عن التوكل، وقد كانوا يكرهون أنين المريض، لأنه يترجم عن الشكوى، فكان الفضيل يقول: أشتهي مرضا بلا عواد. وقال رجل للإمام أحمد : كيف أنت ؟ قال: بخير. قال حممت البارحة؟ قال: إذا قلت لك: أنا بخير، فلا تخرجني إلى ما أكره. فأما إذا وصف المريض للطبيب ما يجده، فإنه لا يضره. وقد كان بعض السلف يفعل ذلك، ويقول: إنما أصف قدرة الله في، ويتصور أن يصف ذلك لتلميذ يقويه على الضراء ويرى ذلك نعمة، فيصف ذلك كما يصف النعمة شكراً لها، ولا يكون ذلك شكوى. وقد روينا أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ » [البخاري: 5648]. نقله لكم www.aborashed.com من كتاب: "مختصر منهاج القاصدين ص 317 - 321 |
ما استقر عليه أهل السنة في حكم الخروج لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإن الله تعالى بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. فإذا تولى خليفة من الخلفاء، كيزيد وعبد الملك والمنصور وغيرهم، فإما أن يقال: يجب منعه من الولاية وقتاله حتى يولى غيره كما يفعله من يرى السيف، فهذا رأي فاسد، فإن مفسدة هذا أعظم من مصلحته. وقلّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير. كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة، وأمثال هؤلاء. وغاية هؤلاء إما أن يغلبوا وإما أن يغلبوا، ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة; فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقا كثيرا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور. وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهزموا وهزم أصحابهم، فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا. والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة، فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدرا عند الله وأحسن نية من غيرهم. وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق. وكذلكأصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم والدين، والله يغفر لهم كلهم . وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث: أين كنت يا عامر؟ قال: كنت حيث يقول الشاعر عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصـــوت إنســــــان فـــكـــــدت أطــــــــير وكان الحسن البصري يقول: إن الحجاج عذاب الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾[سورة المؤمنون: 76] وكان طلق بن حبيب يقول: اتقوا الفتنة بالتقوى. فقيل له: أجمل لنا التقوى. فقال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو رحمة الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله. رواه أحمد وابن أبي الدنيا. وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث. ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جورالأئمة وترك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين. وقال : فيتبين لهم في آخر الأمر ما كان الشارع دل عليه من أول الأمر. وفيهم من لم تبلغه نصوص الشارع، أو لم تثبت عنده. وفيهم من يظنها منسوخة كابن حزم. وفيهم من يتأولها كما يجري لكثير من المجتهدين في كثير من النصوص. فإن بهذه الوجوه الثلاثة يترك من يترك من أهل الاستدلال العمل ببعض النصوص; إما أن لا يعتقد ثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإما أن يعتقدها غير دالة على مورد الاستدلال، وإما أن يعتقدها منسوخة. إلى أن قال: ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونا بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين. ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحا في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان. وكلا هذين الطرفين فاسد. [منهاج السنة النبوية (4/ 527 - 538)] ذكر من نقل الإجماع على تحريم الخروج "وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل وحكي عن المعتزلة أيضا فغلط من قائله مخالف للإجماع... إلى قوله: قال القاضي وقيل إن هذا الخلاف كان أولا ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم والله أعلم". [شرح مسلم، حديث (1709)] وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : في شرح حديث حذيفة في لزوم الجماعة؛ "وقال بن بطال فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك الخروج على أئمة الجور لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم دعاة على أبواب جهنم ولم يقل فيهم تعرف وتنكر كما قال في الأولين وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير حق وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة". [فتح الباري (13/ 37)] وقال في ترجمة الحسن بن صالح : " وقولهم (كان يرى السيف) يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسلف قديم، لكن أستقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه؛ ففي وقعة الحرة ووقعة بن الأشعث وغيرهما عظة لمن تدبر". [تهذيب التهذيب (2 / 288)] ذكر الأدلة الصريحة في منع الخروج قالت هيئة كبار العلماء في المملكة: أفاد قوله: (إلا أن تروا) : أنه لا يكفي مجرد الظن والإشاعة. وأفاد قوله: (كفراً) أنه لا يكفي الفسوق ولو كبر؛ كالظلم وشرب الخمر ولعب القمار، والاستئثار المحرم. وأفاد قوله: (بواحاً) : أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح؛ أي: صريح ظاهر. وأفاد قوله: (عندكم فيه من الله برهان) : أنه لا بد من دليل صريح ، بحيث يكون صحيح الثبوت، صريح الدلالة، فلا يكفي الدليل ضعيف السند، ولا غامض الدلالة. وأفاد قوله: (من الله) : أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت مَنْزِلته في العلم والأمانة إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. [مجلة البحوث العلمية. عدد56 (ص/357)] وعن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع» قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلوا». رواه مسلم عن عوف بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال:«لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدا من طاعة». رواه مسلم وعن أبي هريرة قال: سمعت الصادق المصدوق يقول: «هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش» فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمةً. فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول: بني فلان، وبني فلان، لفعلت. رواه البخاري قال ابن بطال : وفى هذا الحديث أيضًا حجة لجماعة الأمة فى ترك القيام على أئمة الجور ووجوب طاعتهم والسمع والطاعة لهم، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) قد أعلم أبا هريرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، ولم يأمره بالخروج عليهم ولا بمحاربتهم، وإن كان قد أخبر أن هلاك أمته على أيديهم، إذ الخروج عليهم أشدّ فى الهلاك وأقوى فى الاستئصال، فاختار (صلى الله عليه وسلم) لأمته أيسر الأمرين وأخف الهلاكين، إذ قد جرى قدر الله وعلمه أن أئمة الجور أكثر من أئمة العدل وأنهم يتغلّبون على الأمة، وهذا الحديث من أقوى ما يرد به على الخوارج. [شرح صحيح البخاري لابن بطال ( 10 / 10 )] |
أصول في التكفير للعلامة الأوحد الكبير، علامة المعقول والمنقول، حاوي علمي الفروع والأصول (1) الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله (مرفق سيرته) قال رحمه الله في رده على بعض المخالفين في مسائل التكفير: "وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة، والمصالحة والمكاتبات وبذل الأموال والهدايا، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات. والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزقه الله الفهم عن الله، وأوتي الحكمة وفصل الخطاب. والكلام في ذلك يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيرها لمن جهلها، وأعرض عنها وعن تفاصيلها؛ فإن الإجمال والإطلاق، وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله، يحصل به شيء من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم السنة والقرآن. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كافيته: فعليك بالتفصـيل والتبـيـيــن فالإطلاق والإجمال دون بيان قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الأذهـان والآراء كــل زمـــان وأما : التكفير بهذه الأمور، التي ظننتموها، من مكفرات أهل الإسلام فهذا : مذهب، الحرورية، المارقين، الخارجين على علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة." وبعد أن بيّن رحمه الله شيئاً مما تعنيه بعض الألفاظ كلفظ الظلم والمعصية، والفسوق والفجور، والموالاة والمعاداة، والركون والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة مما غلط فيه الخوارج والمرجئة، وذكر فوائد عزيزة من قصة عبد الله حماراً وحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنهما (مرفق مهم). قال: هنا أصول: أحدها: أن السنة والأحاديث النبوية، هي المبيـّنة للأحكام القرآنية، وما يراد بيان السنة لأحكام القرآن من النصوص الواردة في كتاب الله، في باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن والكافر، والمشرك والموحد، والفاجر والبر، والفاجر والتقي، وما يراد بالموالاة والتولي، ونحو ذلك من الحدود، كما أنها المبينة لما يراد من الأمر بالصلاة على الوجه المراد في عددها، وأركانها، وشروطها، وواجباتها. وكذلك الزكاة؛ فإنه لا يظهر المراد من الآيات الموجبة، ومعرفة النصاب والأجناس التي تجب فيها، من الأنعام، والثمار، والنقود، ووقت الوجوب، واشتراط الحول في بعضها، ومقدار ما يجب في النصاب، وصفته، إلا ببيان السنة، وتفسيرها، وكذلك الصوم، والحج، جاءت السنة ببيانهما، وحدودهما، وشروطهما، ومفسداتهما، ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة. وكذلك أبواب الربا، وجنسه، ونوعه، وما يجري فيه، وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي، وكل هذا البيان أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، برواته الثقات العدول، عن مثلهم، إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن أهمل هذا وأضاعه، فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان، ومعرفة التنزيل والقرآن. الأصل الثاني: أن الإيمان أصل، له شعب متعددة، كل شعبة فيها تسمى إيماناً، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعاً، كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزواله إجماعاً، كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين، شعب متفاوتة، منها ما يلحق شعب الإيمان بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق، ويكون إليها أقرب، والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها، مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف، الأمة وأئمتها. وكذلك الكفر أيضاً، ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يسوّى بينها في الأسماء والأحكام، وفرق بين من ترك الصلاة، أو الزكاة، أو الصيام، أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف؛ وبين من سرق، أو زنى، أو انتهب، أو صدر منه نوع موالاة، كما جرى لحاطب. فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، أو سوى بين شعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء. الأصل الثالث: حقيقة الأيمان إن الإيمان مركب من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب، وهو اعتقاده، وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو قصده، حقيقة الإيمان واختياره، ومحبته، ورضاه، وتصديقه؛ وعمل الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة. فإذا زال تصديق القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه، زال الإيمان بالكلية؛ وإذا زال شيء من الأعمال، كالصلاة، والزكاة والحج، والجهاد، مع بقاء تصديق القلب وقبوله، فهذا محل خلاف: هل يزول الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية، كالصلاة، والحج، والزكاة، والصيام، أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة وغيرها، أو لا يفرق؟ فأهل السنة مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب، الذي هو محبته، ورضاه، وانقياده، والمرجئة تقول: يكفي التصديق فقط، ويكون به مؤمناً. والخلاف في أعمال الجوارح، هل يكفر أو لا يكفر؟ واقع بين أهل السنة، والمعروف عن السلف، تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية، كالصلاة والزكاة، والصيام، والحج. (والقول الثاني): أنه لا يكفر إلا من جحدها. (والثالث):الفرق بين الصلاة وغيرها. وهذه الأقوال معروفة. وكذلك المعاصي والذنوب، التي هي فعل المحظورات، فرقوا فيها بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه، وما دون ذلك، وبين ما سماه الشارع كفراً، وما لم يسمه. هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها. الأصل الرابع: أن الكفر نوعان، كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله، جحوداً وعناداً، من أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه التي أصلها توحيده، وعبادته، وحده لا شريك له، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه. وأما كفر العمل، فمنه ما يضاد الإيمان، كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي، وسبه. وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة، فهذا كفر عمل، لا كفر اعتقاد، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض))، وقوله: ((من أتى كاهناً فصدقه أو امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم))، فهذا من الكفر العملي، وليس كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي، وسبه، وإن كان الكل يطلق عليه الكفر، وقد سمى الله سبحانه من عمل ببعض كتابه، وترك العمل ببعضه مؤمناً بما عمل به، وكافراً بما ترك العمل به. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} إلى قوله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}. فأخبر -سبحانه- أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به، والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به، وأخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقاً آخرين، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أخذ عليهم، ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي. وفي الحديث الصحيح: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) وفرق بين سبابه، وقتاله، وجعل أحدهما فسوقاً لا يكفر به، والآخر كفراً، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي، لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية، والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني، والسارق، والشارب، من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان. وهذا التفصيل هو قول الصحابة، الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام، والكفر، ولوازمها، فلا تلقى هذا المسائل إلا عنهم، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم، فانقسموا فريقين: فريق أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، فريق جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان. فأولئك غلوا، وهؤلاء جفوا، فهدى الله أهل السنة، للطريق المثلى، والقول الوسط ، الذي هو في المذهب، كالإسلام في الملل، فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم. فعن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: ليس هو بالكفر الذي تذهبون إليه" رواه عنه سفيان، وعبد الرزاق. وفي رواية عنه أخرى: "كفر لا ينقل عن الملة". وعن عطاء: "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق". وهذا بيّن في القرآن لمن تأمله، فإن الله -سبحانه- سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافراً، وليس الكافران على حد سواء. وسمى الكافر ظالماً، كما في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. وسمى من يتعد حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالماً، وقال {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . وقال يونس عليه السلام: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، وقال آدم عليه السلام {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}، وقال موسى عليه السلام {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}. وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم، وسمى الكافر فاسقاً في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ} وسمى العاصي فاسقاً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}، وقال في الذين يرمون المحصنات: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، وقال: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، وليس الفسق كالفسوق. وكذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر، وشرك لا أنواع الشرك والنفاق ينقل عن الملة، وهو الأصغر، كشرك الرياء. وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}، وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ}، وقال في شرك الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}. وفي الحديث: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)). ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم ((الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل))، فانظر كيف انقسم الشرك والكفر، والفسوق والظلم، إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها. وكذلك النفاق نفاقان: نفاق اعتقاد، ونفاق عمل. ونفاق الاعتقاد مذكور في القرآن في غير موضع، أوجب لهم تعالى به الدرك الأسفل من النار، ونفاق العمل جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)). وقال بعض الأفاضل: "وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام، ولكن إذا استحكم وكمل، فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى، وصام، وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد، لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً". انتهى. الأصل الخامس: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد، أن يسمى مؤمناً، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر، أن يسمى كافراً، وإن كان ما قام به كفراً، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه، أن يسمى عالماً، أو طبيباً، أو فقيهاً. وأما الشعبة نفسها، فيطلق عليها اسم الكفر، كما في حديث: "اثنتان بأمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت"، وحديث: ((من حلف بغير الله فقد كفر))، لكنه لا يستحق اسم الكافر على الإطلاق. فمن عرف هذا، عرف فقه السلف، وعمق علومهم، وقلة تكلفهم. قال ابن مسعود رضي الله عنه" من كان متأسياً فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم؛ فإنهم على الهدى المستقيم". وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين، لا يبالي بأيهما ظفر: إحداهما: الغلو، ومجاوزة الحد والإفراط. والثانية هي: الإعراض والترك والتفريط. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- لما ذكر شيئاً من مكايد الشيطان: قال بعض السلف: "ما أمر الله سبحانه بأمر، إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر". وقد اقتطع أكثر الناس، إلا أقل القليل، في هذين الواديين: واد التقصير، وواد المجاوزة والتعدي، والقليل منهم جداً، الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وعدّ -رحمه الله- كثيراً من هذا النوع، إلى أن قال:- وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم، كإيمان جبريل وميكائيل، فضلاً عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة. قال جامع الرسائل (2): هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة، العظيمة المنافع، القاضية بالبراهين والأدلة القواطع. وصلى الله على محمد، وآله، وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. 19 ذي ... 1331هـ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) وصفه بذلك علامة العراق محمود شكري الألوسي. (2) هو تلميذه الشيخ سليمان بن سحمان. وقال عن هذه الرسائل: لقد اشتملت على أصول أصيلة ومباحث جليلة، لا تكاد تجدها في كثير من الكتب المصنفة، والدواوين المشهورة المؤلفة، إذا سرح العالم نظره فيها علِم أن هذا الإمام قد حاز قصب السبق في الفروع والأصول، واحتوى منه على ما سمق وسبق به الأئمة الفحول. عيون الرسائل – الجزء الأول ص 185 الدرر السنية في الأجوبة النجدية، 1/232-242 إعداد: التصنيف: الإمام عبد اللطيف آل الشيخ |
الإنسان بين الملَك والشيطان للإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله من عقوبة المعصية أنها تُباعد عن العبد وليه وأنفع الخلق له وأنصحهم له، ومن سعادته في قربه منه، وهو الملَك الموكل به، وتدني منه عدوه وأغش الخلق له، وأعظمهمضررا له، وهو الشيطان؛ فإن العبد إذا عصى الله تباعد منه الملك بقدر تلك المعصية، حتى إنه يتباعد منه بالكذبة الواحدة مسافة بعيدة. وفي بعض الآثار: إذا كذب العبد تباعد منه الملك ميلا من نتن ريحه، فإذا كان هذا تباعد الملك منه من كذبة واحدة، فماذا يكون مقدار بعده منه مما هو أكبر من ذلك، وأفحش منه؟ وقال بعض السلف: إذا رُكب الذكر عجّت الأرض إلى الله وهربت الملائكة إلى ربها، وشكت إليه عظيم ما رأت. وقال بعض السلف: إذا أصبح ابن آدم ابتدره الملك والشيطان، فإن ذكر الله وكبره وحمده وهلله، طرد الشيطان وتولاه الملك، وإن افتتح بغير ذلك ذهب الملك عنه وتولاه الشيطان. ولا يزال الملك يقرب من العبد حتى يصير الحكم والطاعة والغلبة له، فتتولاه الملائكة في حياته وعند موته وعند بعثه، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَنَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾[سورة فصلت: 30 - 31] . وإذا تولاه الملك تولاه أنصح الخلق وأنفعهم وأبرهم، فثبته وعلمه، وقوى جنانه، وأيده الله تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾[سورة الأنفال: 12] . فيقول الملك عند الموت: لا تخف ولا تحزن وأبشر بالذي يسرك، ويثبته بالقول الثابت أحوج ما يكون إليه في الحياة الدنيا، وعند الموت، وفي القبر عند المسألة. فليس أحد أنفع للعبد من صحبة الملك له، وهو وليه في يقظته ومنامه، وحياته وعند موته وفي قبره، ومؤنسه في وحشته، وصاحبه في خلوته، ومحدثه في سره، ويحارب عنه عدوه، ويدافع عنه ويعينه عليه، ويعده بالخير ويبشره به، ويحثه على التصديق بالحق، كما جاء في الأثر الذي يروى مرفوعا وموقوفا: «إن للملك بقلب ابن آدم لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك: إيعاد بالخير وتصديق بالوعد، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق» . وإذا اشتد قرب الملك من العبد تكلم على لسانه، وألقى على لسانه القول السديد، وإذا بعد منه وقرب الشيطان، تكلم على لسانه، وألقى عليه قول الزور والفحش، حتى يرى الرجل يتكلم على لسانه الملك والرجل يتكلم على لسانه الشيطانوفي الحديث: «إن السكينة تنطق على لسان عمر» - رضي الله عنه - وكان أحدهم يسمع الكلمة الصالحة من الرجل الصالح فيقول: ما ألقاه على لسانك إلا الملك، ويسمع ضدها فيقول: ما ألقاها على لسانك إلا الشيطان، فالملك يلقي بالقلب الحق ويلقيه على اللسان، والشيطان يلقي الباطل في القلب ويجريه على اللسان. فمن عقوبة المعاصي أنها تبعد من العبد وليه الذي سعادته في قربه ومجاورته وموالاته، وتدني منه عدوه الذي شقاؤه وهلاكه وفساده في قربه وموالاته، حتى إن الملك لينافح عن العبد، ويرد عنه إذا سفه عليه السفيه وسبه، كما اختصم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلان، فجعل أحدهما يسب الآخر وهو ساكت، فتكلم بكلمة يرد بها على صاحبه، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله لما رددت عليه بعض قوله قمت، فقال: «كان الملك ينافح عنك، فلما رددت عليه جاء الشيطان فلم أكن لأجلس» . وإذا دعا العبد المسلم لأخيه بظهر الغيب أمن الملك على دعائه، وقال: «ولك بمثل». وإذا فرغ من قراءة الفاتحة أمنت الملائكة على دعائه. وإذا أذنب العبد الموحد المتبع لسبيله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - استغفر له حملة العرش ومن حوله. وإذا نام العبد على وضوء بات في شِعارِهِ ملك. فملك المؤمن يرد عنه ويحارب ويدافع عنه، ويعلّمه ويثبّته ويشجعه، فلا يليق به أن يسيء جواره ويبالغ في أذاه وطرده عنه وإبعاده، فإنه ضيفه وجاره. وإذا كان إكرام الضيف من الآدميين والإحسان إلى الجار من لوازم الإيمان وموجباته، فما الظن بإكرام أكرم الأضياف، وخير الجيران وأبرهم؟ وإذا آذى العبد الملك بأنواع المعاصي والظلم والفواحش دعا عليه ربه، وقال: لا جزاك الله خيرا، كما يدعو له إذا أكرمه بالطاعة والإحسان. قال بعض الصحابة - رضي الله عنهم -: إن معكم من لا يفارقكم، فاستحيوا منهم وأكرموهم. ولا ألأم ممن لا يستحي من الكريم العظيم القدر، ولا يجله ولا يوقره، وقد نبه سبحانه على هذا المعنى بقوله: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَكِرَامًا كَاتِبِينَيَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾[سورة الانفطار: 10 - 12] أي استحيوا من هؤلاء الحافظين الكرام وأكرموهم، وأجلوهم أن يروا منكم ماتستحيون أن يراكم عليه من هو مثلكم، والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصي بين يديه، وإن كان يعمل مثل عمله، فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟ والله المستعان. نقله لكم www.aborashed.com من كتاب "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" أو "الداء والدواء" ص 106 |
السر الذي فيه الشفاء التام والدواء النافع للإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله فَاتِحَةُ الْكِتاب: وأُمُّ القرآن، والسبعُ المثاني، والشفاءُ التام، والدواءُ النافع، والرُّقيةُ التامة، ومفتاح الغِنَى والفلاح، وحافظةُ القوة، ودافعةُ الهم والغم والخوف والحزن لمن عرف مقدارَها وأعطاها حقَّها، وأحسنَ تنزيلها على دائه، وعَرَفَ وجهَ الاستشفاء والتداوي بها، والسرَّ الذي لأجله كانت كذلك. ولما وقع بعضُ الصحابة على ذلك، رقى بها اللَّديغ، فبرأ لوقته. فقال له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « وما أدراك أنَّها رُقْيَة ». ومَن ساعده التوفيق، وأُعين بنور البصيرة حتى وقف على أسرارِ هذه السورة، وما اشتملت عليه مِنَ التوحيد، ومعرفةِ الذات والأسماء والصفات والأفعال، وإثباتِ الشرع والقَدَر والمعاد، وتجريدِ توحيد الربوبية والإلهية، وكمال التوكل والتفويض إلى مَن له الأمر كُلُّه، وله الحمدُ كُلُّه، وبيده الخيرُ كُلُّه، وإليه يرجع الأمرُ كُلُّه، والافتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصلُ سعادة الدارين، وعَلِمَ ارتباطَ معانيها بجلب مصالحهما، ودفع مفاسدهما، وأنَّ العاقبةَ المطلقة التامة، والنعمةَ الكاملة مَنوطةٌ بها، موقوفةٌ على التحقق بها، أغنته عن كثير من الأدوية والرُّقى، واستفتح بها من الخير أبوابه، ودفع بها من الشر أسبابَه. وهذا أمرٌ يحتاجُ استحداثَ فِطرةٍ أُخرى، وعقلٍ آخر، وإيمانٍ آخر، وتاللهِ لا تجدُ مقالةٌ فاسدة، ولا بدعةٌ باطلة إلا وفاتحةُ الكتابِ متضمِّنة لردها وإبطالها بأقرب الطُرُق، وأصحِّها وأوضحِها، ولا تجدُ باباً من أبواب المعارف الإلهية، وأعمالِ القلوب وأدويتها مِن عللها وأسقامها إلا وفى فاتحة الكتاب مفتاحُه، وموضعُ الدلالة عليه، ولا منزلاً من منازل السائرين إلى ربِّ العالمين إلا وبدايتُه ونهايتُه فيها. ولعَمْرُ الله إنَّ شأنها لأعظمُ من ذلك، وهى فوقَ ذلك. وما تحقَّق عبدٌ بها، واعتصم بها، وعقل عمن تكلَّم بها، وأنزلها شفاءً تاماً، وعِصمةً بالغةً، ونوراً مبيناً، وفهمها وفهم لوازمَها كما ينبغي ووقع في بدعةٍ ولا شِركٍ، ولا أصابه مرضٌ من أمراض القلوب إلا لِماماً، غيرَ مستقر. هذا.. وإنها المفتاح الأعظم لكنوز الأرض، كما أنها المفتاحُ لكنوز الجَنَّة، ولكن ليس كل واحد يُحسن الفتح بهذا المفتاح، ولو أنَّ طُلابَ الكنوز وقفوا على سر هذه السورة، وتحقَّقُوا بمعانيها، وركَّبوا لهذا المفتاح أسناناً، وأحسنُوا الفتح به، لوصلوا إلى تناول الكُنوزِ من غير معاوِق، ولا ممانع. ولم نقل هذا مجازفةً ولا استعارةً؛ بل حقيقةً، ولكنْ لله تعالى حكمةٌ بالغة في إخفاء هذا السر عن نفوس أكثر العالَمين، كما لَه حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم. والكنوزُ المحجوبة قد استُخدمَ عليها أرواحٌ خبيثة شيطانية تحولُ بين الإنس وبينها، ولا تقهرُها إلاَّ أرواحٌ عُلْوية شريفة غالبة لها بحالها الإيماني، معها منه أسلحةٌ لا تقومُ لها الشياطين، وأكثرُ نفوس الناس ليست بهذه المَثابة، فلا يُقاوِمُ تلك الأرواح ولا يَقْهَرُها، ولا ينال من سلبِها شيئاً، فإنَّ مَن قتل قتيلاً فله سلبه. نقله لكم www.aborashed.com من كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد / مجلد الطب النبوي ( 4 / 347 ) |
إلى الذين يزكون أنفسهم للإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله نذكر هاهنا نكتة نافعة. وهى: أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب، وما ينال كثيرا من الكفار والفجار والظلمة في الدنيا من الرياسة والمال، وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم في الدنيا قليل، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة في الدنيا قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين. فإذا سمع في القرآن قوله تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[المنافقون: 8] وقوله ﴿وَإنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ﴾[الصافات: 173] وقوله ﴿كَتَبَ الله لأغْلِبن أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: 21] وقوله ﴿وَالعَاقِبةُ لِلْمُتّقِينَ﴾[الأعراف: 128، القصص: 83] . حمل ذلك على أن حصوله في الدار الآخرة فقط،ويعتمد على هذا الظن إذا أُديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين، أو الفجرة الظالمين: وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى. فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق، فيقول: أنا على الحق. وأنا مغلوب: فصاحب الحق في هذه الدنيا مغلوب مقهور، والدولة فيها للباطل. وأنت تشاهد كثيراً من الناس إذا أصابه نوع من البلاء يقول: يا ربى ما كان ذنبي، حتى فعلت بي هذا؟ وقال لي غير واحد: إذا تبت إليه وأنبت وعملت صالحا ضيق على رزقي، ونكد علي معيشتي، وإذا رجعت إلى معصيته، وأعطيت نفسي مرادها، جاءني الرزق والعون ونحو هذا. فقلت لبعضهم: هذا امتحان منه، ليرى صدقك وصبرك، هل أنت صادق في مجيئك إليه وإقبالك عليه، فتصبر على بلائه، فتكون لك العاقبة، أم أنت كاذب فترجع على عقبك؟. وهذه الأقوال والظنون الكاذبة الحائدة عن الصواب مبنية على مقدمتين: إحداهما: حسن ظن العبد بنفسه وبدينه، واعتقاده أنه قائم بما يجب عليه، وتارك ما نهى عنه، واعتقاده في خصمه وعدوه خلاف ذلك، وأنه تارك للمأمور، مرتكب للمحظور، وأنه نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه. والمقدمة الثانية: اعتقاده أن الله سبحانه وتعالى قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره، وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا بوجه من الوجوه، بل يعيش عمره مظلوما مقهورا مستضاما، مع قيامه بما أمر به ظاهرا وباطنا، وانتهائه عما نهى عنه باطنا وظاهرا، فهو عند نفسه قائم بشرائع الإسلام، وحقائق الإيمان، وهو تحت قهر أهل الظلم، والفجور والعدوان. فلا إله إلا الله، كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل، ومتدين لا بصيرة له، ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين. فإنه من المعلوم: أن العبد وإن آمن بالآخرة فإنه طالب في الدنيا لما لا بد له منه: من جلب النفع، ودفع الضر، بما يعتقد أنه مستحب أو واجب أو مباح. فإذا اعتقد أن الدين الحق واتباع الهدى، والاستقامة على التوحيد، ومتابعة السنة ينافى ذلك. وأنه يعادى جميع أهل الأرض لما لا يقدر عليه من البلاء، وفوات حظوظه ومنافعه العاجلة، لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة في كمال دينه، وتجرده لله ورسوله، فيعرض قلبه عن حال السابقين المقربين، بل قد يعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين، بل قد يدخل مع الظالمين، بل مع المنافقين، وإن لم يكن هذا في أصل الدين كان في كثير من فروعه وأعماله، كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَناً كَقِطَعِ الّليْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمسِى كافِراً، وَيُمْسِى كافِراً وَيُصْبِحُ مُؤْمِناً، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا». وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصل إلا بفساد دنياه، من حصول ضرر لا يحتمله، وفوات منفعة لابد له منها، لم يقدم على احتمال هذا الضرر، ولا تفويت تلك المنفعة. فسبحان الله، كم صدت هذه الفتنة الكثير من الخلق، بل أكثرهم عن القيام بحقيقة الدين. وأصلها ناشئ من جهلين كبيرين: جهل بحقيقة الدين، وجهل بحقيقة النعيم الذي هو غاية مطلوب النفوس، وكمالها، وبه ابتهاجها والتذاذها، فيتولد من بين هذين الجهلين إعراضه عن القيام بحقيقة الدين، وعن طلب حقيقة النعيم. ومعلوم أن كمال العبد هو بأن يكون عارفا بالنعيم الذي يطلبه، والعمل الذي يوصل إليه، وأن يكون مع ذلك فيه إرادة جازمة لذلك العمل، ومحبة صادقة لذلك النعيم، وإلا فالعلم بالمطلوب وطريقه لا يحصله إن لم يقترن بذلك العمل، والإرادة الجازمة لا توجب وجود المراد إلا إذا لازمها الصبر. فصارت سعادة العبد وكمال لذته ونعيمه موقوفا على هذه المقامات الخمسة: 1- علمه بالنعيم المطلوب 2- ومحبته له، 3- وعلمه بالطريق الموصل إليه 4- وعمله به، 5- وصبره على ذلك. قال الله تعالى : ﴿وَالْعَصْرِ إنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. والمقصود: أن المقدمتين اللتين تثبت عليهما هذه الفتنة أصلهما الجهل بأمر الله ودينه، وبوعده ووعيده. فإن العبد إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق، فقد اعتقد أنه قد قام بفعل المأمور باطناً وظاهراً، وترك المحظور باطناً وظاهراً، وهذا من جهله بالدين الحق، وما لله عليه وما هو المراد منه، فهو جاهل بحق الله عليه، جاهل بما معه من الدين قدراً ونوعاً وصفة. وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله تعالى في الدنيا والآخرة، بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين، وللفجار الظالمين، على الأبرار المتقين، فهذا من جهله بوعد الله تعالى ووعيده. فأما المقام الأول: فإن العبد كثيرا ما يترك واجبات لا يعلم بها، ولا بوجوبها، فيكون مقصرا في العلم، وكثيرا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها، إما كسلا وتهاونا، وإما لنوع تأويل باطل، أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك، فواجبات القلوب أشد وجوبا من واجبات الأبدان، وآكد منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هي من باب الفضائل والمستحبات. فتراه يتحرج من ترك فرض أو من ترك واجب من واجبات البدن، وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها، ويتحرج من فعل أدنى المحرمات وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريما وأعظم إثما. بل ما أكثر من يتعبد لله عز وجل بترك ما أوجب عليه، فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مع قدرته عليه، وبزعم أنه متقرب إلى الله تعالى بذلك، مجتمع على ربه، تارك ما لا يعنيه، فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى، وأبغضهم له، معظنه أنه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام وأنه من خواص أوليائه وحزبه. بل ما أكثر من يتعبد لله بما حرمه الله عليه، ويعتقد أنه طاعة وقربة، وحاله في ذلك شر من حال من يعتقد ذلك معصية وإثما، كأصحاب السماع الشعري الذي يتقربون به إلى الله تعالى، ويظنون أنهم من أولياء الرحمن، وهم في الحقيقة من أولياء الشيطان. وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوع من الحق ونوع من الباطل والظلم، ومع خصمه نوع من الحق والعدل، حبك الشيء يعمى ويصم. والإنسان مجبول على حب نفسه، فهو لا يرى إلا محاسنها، ومبغض لخصمه، فهو لا يرى إلا مساوئه، بل قد يشتد به حبه لنفسه، حتى يرى مساويها محاسن، كما قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيَّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهٍ فَرَآهُ حَسَناً﴾[فاطر: 8] . ويشتد به بغض خصمه، حتى يرى محاسنه مساوئ، كما قيل: نظَرُوا بِعَيْنِ عَدَاوَةٍ، وَلَوَ أنَّهَا ... عَيْنُ الرِّضَا، لاسْتَحْسَنُوا مَا اسْتَقْبَحُوا وهذا الجهل مقرون بالهوى والظلم غالبا، فإن الإنسان ظلوم جهول. وأكثر ديانات الخلق إنما هي عادات أخذوها عن آبائهم وأسلافهم، وقلدوهم فيها: في الإثبات والنفي، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة. والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه بدينه علماً وعملاً، لم يضمن نصر الباطل، ولو اعتقد صاحبه أنه محق، وكذلك العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو علم وعمل وحال، قال تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران: 139] . فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان، وقال تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُوِلهِ وَلِلْمُؤْمِنِين﴾[المنافقون: 8] . فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاته حظ من العلو والعزة، ففي مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان، علما وعملا ظاهرا وباطنا. وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوا﴾[الحج: 38] . فإذا ضعف الدفع عنه فهو من نقص إيمانه. وكذلك الكفاية والحَسْب هي بقدر الإيمان، قال تعالى: ﴿يأَيُّهَا النَّبي حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾[الأنفال: 64] . أي الله حسبك وحسب أتباعك، أي كافيك وكافيهم، فكفايته لهم بحسب اتباعهم لرسوله، وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله. ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص. وكذلك ولاية الله تعالى لعبده هي بحسب إيمانه قال تعالى: ﴿وَاللهُ وَلِى المُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران: 68] وقال الله تعالى: ﴿اللهُ وَلِى الّذِينَ آمَنُوا﴾[البقرة: 257] . وكذلك معيته الخاصة هي لأهل الإيمان، كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ اللهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ﴾[الأنفال: 19] . فإذا نقص الإيمان وضعف، كان حظ العبد من ولاية الله له ومعيته الخاصة بقدر حظه من الإيمان. وكذلك النصر والتأييد الكامل، إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: ﴿إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾[غافر: 51] وقال ﴿فَأَيَّدْنَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾[الصف: 14] . فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه. وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ [النساء: 141] . ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الآخرة، ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الحجة. والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى. فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور، مكفي، مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقةالإيمان وواجباته، ظاهرا وباطنا. وقد قال تعالى للمؤمنين: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلا تحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران: 139] وقال تعالى ﴿فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمٌ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾[محمد: 35] . فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم، التي هي جند من جنود الله، يحفظهم بها، ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم، فيبطلها عليهم، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم إذ كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره. وأما المقام الثاني: [ففي تدوينة قادمة بإذن الله] نقله لكم باختصار من كتاب "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" ( 2 / 176-183 ) |
الفرق بين حسن الظن والغرور للإمام ابن القيم رحمه الله ولو أن رجلا كانت له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه فأهملها ولم يبذرها ولم يحرثها، وحسن ظنه بأنه يأتي من مغلها ما يأتي من حرث وبذر وسقى وتعاهد الأرض لعده الناس من أسفه السفهاء. وكذلك لو حسن ظنه وقوي رجاؤه بأن يجيئه ولد من غير جماع، أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم، وحرص تام عليه، وأمثال ذلك. فكذلك من حسن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلا والنعيم المقيم، من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وبالله التوفيق. وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ [ سورة البقرة : 218 ]. فتأمل كيف جعل رجاءهم إتيانهم بهذه الطاعات ؟ وقال المغترون : إن المفرطين المضيعين لحقوق الله المعطلين لأوامره، الباغين على عباده، المتجرئين على محارمه، أولئك يرجون رحمة الله. وسر المسألة : أن الرجاء وحسن الظن إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعه وقدره وثوابه وكرامته، فيأتي العبد بها ثم يحسن ظنه بربه، ويرجوه أن لا يكله إليها، وأن يجعلها موصلة إلى ما ينفعه، ويصرف ما يعارضها ويبطل أثرها. |
سؤال (؟) عن أعجب الأشياء يجب عليه الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله السؤال: كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل، وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غداً إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة، أو يكرمه أتم كرامة، ويبيت ساهيا غافلا لا يتذكر موقفه بين يدي الملك، ولا يستعد له ولا يأخذ له أهبة ؟!. الإجابة: قيل هذا لعمر الله سؤال صحيح وارد على أكثر هذا الخلق، واجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء، وهذا التخلف له عدة أسباب: أحدها: ضعف العلم ونقصان اليقين ومن ظن أن العلم لا يتفاوت فقوله من أفسد الأقوال، وأبطلها، وقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه أحياء الموتى عيانا بعد علمه بقدرة الرب على ذلك ليزداد طمأنينة ويصير المعلوم غيبا شهادة، وقد روى أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( ليس الخبر كالمعاين )). فإذا اجتمع إلى ضعف العلم: عدم استحضاره أو غيبته عن القلب كثيراً من أوقاته، أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده. وانضم إلى ذلك: تقاضي الطبع وغلبات الهوى واستيلاء الشهوة وتسويل النفس وغرور الشيطان واستبطاء الوعد وطول الأمل ورقدة الغفلة وحب العاجلة ورخص التأويل وإلف العوائد فهناك لا يمسك الإيمان في القلب إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا. وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال حتى ينتهي إلى أدني مثقال ذرة في القلب. وجماع هذه الأسباب يرجع إلى: ضعف البصيرة والصبر ولهذا مدح الله سبحانه أهل الصبر واليقين وجعلهم أئمة في الدين فقال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}. |
قال ابن القيم:
أنفع الناس لك رجل مكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيراً، أو تصنع إليه معروفا فإنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك، فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر |
من أسباب الوقوع في الفتنة مع الحكام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال شيخ الإسلام : ومما ينبغي أن يُعلم أن أسباب هذه الفتن تكون مشتركة فَيَرِدُ على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق وقصده، ولهذا تكون بمنزلة الجاهلية، والجاهلية ليس فيها معرفة الحق ولا قصده، والإسلام جاء بالعلم النافع والعمل الصالح؛ بمعرفة الحق وقصده؛ فيتفق أن بعض الولاة يظلم باستئثار فلا تصبر النفوس على ظلمة، ولا يمكنها دفع ظلمة إلا بما هو أعظم فساداً منه، ولكن لأجل محبة الإنسان لأخذ حقه ودفع الظلم عنه لا ينظر في الفساد العام الذي يتولد عن فعله. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً(1) فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» . رواه البخاري وكذلك ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة في يسره وعسره، ومنشطه ومكرهه، وأثرة عليه» . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادة قال: «بَايَعْنَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ والطَّاعَةِ في العُسْرِ واليُسْرِ، والمَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَعَلَى أثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أنْ لاَ نُنازِعَ الأمْرَ أهْلَهُ إلاَّ أنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ بُرْهَانٌ، وَعَلَى أنْ نَقُولَ بالحَقِّ أيْنَمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ في اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ» . متفق عليه فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن يصبروا(2) على الاستئثار عليهم، وأن يطيعوا ولاة أمورهم، وإن استأثروا عليهم، وأن لا ينازعوهم الأمر، وكثير ممن خرج على ولاة الأمور أو أكثرهم إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه، ولم يصبروا على الاستئثار ثم إنه يكون لولي الأمر ذنوب أخرى فيبقى بغضه لاستئثاره يعظم تلك السيئات، ويبقى المقاتل له ظانّاً أنه يقاتله لئلا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، ومن أعظم ما حرّكه عليه طلب غرضه: إما ولاية، وإما مال. كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة لا يُكَلِّمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إِليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رَجُل على فَضْل ماء بِفَلاة يمنعه من ابن السبيل يقول الله له يوم القيامة: اليومَ أمْنَعُكَ فَضْلِي، كما مَنَعْتَ فضلَ ما لم تعمل يَدَاك، ورجل بايَعَ إِماما لا يبايِعُهُ إِلا للدنيا فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يُعْط منها سَخَطَ. ورجل حَلَف على سِلْعَة لقد أُعْطِي بِهَا أكثر مما أُعْطِيَ ، وهو كاذب». فإذا اتفق من هذه الجهة شبهة وشهوة، ومن هذه الجهة شهوة وشبهة قامت الفتنة، والشارع أمر كل إنسان بما هو المصلحة له وللمسلمين؛ فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم حتى قال: « مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّة، يَموتُ يَوْمَ يَمُوتُ وهو غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلا حَرَّمَ اللهُ عليه الجَنَّةَ». وأمر الرعية بالطاعة والنصح كما ثبت في الحديث الصحيح: «إِنما الدين النصيحة» ثلاثاً. قالوا: لِمَنْ يا رسول الله؟ قال: «لِلَّهِ ولكتابه ولرسوله، ولأَئمة المسلمين وعامتهم». وأمر بالصبر على استئثارهم، ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم؛ لأن الفساد الناشيء من القتال في الفتنة أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر فلا يُزال أخف الفسادين بأعظمهما. ومن تدبر الكتاب والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتبر ذلك بما يجده في نفسه وفي الأفاق علم تحقيق قول الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، فإن الله تعالى يُري عباده آياته في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أن القرآن حق، فخبره صدق، وأمره عدل: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. ____________ (1) الأثرة والاستئثار: الانفراد بالشيء دون الآخرين. (2) قال ابن القيم رحمه الله: الصبر حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما. [عدة الصابرين (1 / 7 )] نقله لكم بشيء من الاختصار من كتاب منهاج السنة ( 4 / 538 - 543 ) |
{فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه ، جازاه بأن يُعرض عنه ، فلا يمكّنه من الإقبال عليه . شفاء العليل [١/٢٥٤] فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب ، ويندفع بها المكروه . فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل . مدارج السالكين [٢/٩٠] |
فإن العلم بالله وأسمائه وصفاته هو أشرف العلوم على الإطلاق ، وهو مطلوب لنفسه مراد لذاته . مفتاح دار السعادة [١/٢٧٧] |
أهلاً بكم في هذه الصفحة المعتنية بأقوال وفوائد الإمام الزاهد ابن قيم الجوزية رحمه الله ساهم في نشرها https://twitter.com/#!/ibn_alqaim من أراد صفاء قلبه فليؤثرِ الله على شهوته . القلوب المتعلقة بالشهوات ، محجوبةٌ عن الله بقدر تعلقها بها . الفوائد [٢٦٢] حساب ابن القيم تويتر ibn_alqaim متابعه من قبل https://si0.twimg.com/profile_images...age_normal.jpg⭕أعذب ما قالت العرب⭕ @3_RAB ننشر و ننتقي أشعار و مواعظ وحكم و درر ⭕مما قالته العرب⭕ نتحرى حسن النقل في كل شيئ يشرف على الحساب بعض طلبة العلم على منهج السلف الصالح انشئ الحساب 2012/6/1 مُتابَعة https://si0.twimg.com/profile_images...age_normal.jpgفتاوى اللجنة الدائمة @alifta_net هذه الصفحة تعنى بنشر فتاوى ورسائل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاءصفحة غير رسميةوليس له علاقة بمقر ولا موقع اللجنة الدائمة وانما ننقل فقط مُتابَعة مُتابَع https://si0.twimg.com/profile_images...age_normal.jpgفوائد العلامة الخضير @Fwaed_ALkudheir صفحة غير رسمية تعنى بنشر فتاوى وأقوال |
مقتطفـــات من كتاب الفوائــــد لابن القيم كتب الأخ الفاضل صائد الفوائد : مقتطفـــات من كتاب الفوائــــد لابن القيم يا مخنَّثَ العزم أين أنت ، والطريقُ طريقٌ تعب فيه آدم ، وناح لأجله نوح ، ورُمي في النار الخليل ، وأُضجع للذبح إسماعيل ’ وبيع يوسف بثمن بخس ، ولبث في السجن بضع سنين ، ونُشر بالمنشار زكريا ، وذبح السيد الحصور يحيى ، وقاسى الضرَّ أيوب ، وزاد على المقداد بكاءُ داود ، وسار مع الوحش عيسى ، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم = تزها أنت باللهو واللعب 0 فيا دارها بالحزن إن مزارها *** قريبٌ ، ولكن دون ذلك أهوالُ ==== التقوى ثلاث مراتب : إحداها : حميّة القلب والجوارح عن الآثام والمحارم 0 الثانية : حميّتها عن المكروهات 0 الثالثة : الحميّة عن الفضول وما لا يعني 0 فالأولى تعطي العبد حياته ’ والثانية تفيده صحته وقوته ، والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته0 ==== الاجتماع بالإخوان قسمان : أحدهما : اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت ، فهذا مضرَّته أرجح من منفعه ، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت 0 الثاني : الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر ’ فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها ، ولكن فيه ثلاث آفات : إحداها : تزّين بعضهم لبعض 0 الثانية : الكلام والخلطة أكثر من الحاجة0 الثالثة : أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود0 وبالجملة ، فالاجتماع والخلطة لقاح إما للنفس الأمّارة وإما للقلب والنفس المطمئنة ، والنتيجة مستفادة من اللقاح ، فمن طاب لقاحه طابت ثمرته ، وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من المَلَك ، والخبيثة لقاحها من الشيطان ، وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيّبين والطيّبين للطيّبات ، وعكس ذلك0 ==== * غاب الهدهد عن سليمان عليه الصلاة والسلام ساعة فتوعده ، فيا من أطال الغيبة عن ربه هل أمنت غضبه . * تخلف الثلاثة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة واحدة فجرى لهم ما سمعت فكيف بمن عمره في التخلف عنه . * خالف موسى الخضر في طريق الصحبة ثلاث مرات فحل عقدة الوصال بيد ( هذا فراق بيتي وبينك ) أفما تخاف يا من لم يف لربه قط أن يقول في بعض زلاتك هذا فراق بيني وبينك . -------------------------------------------------------------------------------- فسأل الأخ عبد القدوس : في الحقيقة لقد استفدت كثيرا من هذا الموضوع، ولكن في النفس شيء من هذه العبارة التي قالها الإمام ابن القيم بحق نبي الله نوح عليه الصلاة والسلام (وناح لأجله نوح) فهل النياحة في غير البكاء على الميت مقبولة؟ وهل حدث فعلا أن قام نبي الله نوح عليه الصلاة والسلام بالنياحة لأجل هذا الدين؟ أتمنى أن تفيدنا حول هذه القضية أو إن كان باستطاعتك سؤال بعض أهل العلم وبارك الله فيك . ثم اعترض عليه الأخ المداني : إلى الأخ صائد الفوائد أرجوا أن تقيد صيدك وتوثقه بقول أهل اللغة وإلا طار صيدك. لم أجد في لسان العرب استعمال العرب لكلمة نوح في رفع الصوت مطلقا بل قيدت بما يكون في المناحة للحزن قال أبو ذؤيب: فهن عكوف كنوح الكريــ .......م قد شف أكبادهن الهوى انظر لسان العرب لابن منظور ج2 - ص 627 ومع ذلك فإنني أشكر لك جهدك المتميز في موقعك وصيدك الماتع ثم وصلتني رسالة من أحد الأخوة طالبا رأيي ومشاركتي في الموضوع فكتــبــتُ : أحبتي الكرام / إخواني الأفاضل مادة ( ن و ح ) أعم من أن تكون مقصورة على النياحة . فأصل اشتقاق الكلمة من التـّقابل– كما قال ابن منظور – : التَّـناوُحُ: التَّقابُلُ ؛ ومنه تَناوُحُ الـجبلـين ، و تناوُحُ الرياح، ومنه سميت النساء النوائحُ نَوائِحَ، لأَن بعضهن يقابل بعضاً إِذا نـُـحْنَ، وكذلك الرياح إِذا تقابلت فـي الـمَهَبِّ لأَن بعضها يُناوِحُ بعضاً ويُناسِج . و النَّوْحُ: النساء يجتمعن للـحُزْن ، ولو لم يكن هناك رفع صوت . وهي تـُطلق على عـدّة معاني منها : الاشتداد ، ومنه يُـقال : الصوت المرتفع ، ومنه يُقال للرياح إذا اشتدّت هبوبها : ( تناوحت ) ويقال للذئب إذا عوى ( استناح ) كما يقال ( نوح الحَمام ) لما تـُبديه الحمام من سجعها الذي يُشبه النـّوح . و تَنَوَّحَ الشيءُ تَنَوُّحاً إِذا تـحرّك وهو مُتَدَلَ . ذكر ذلك ابن منظور – رحمه الله – في لسان العرب ، وذكره غيره . وقال ابن الأثير : نَاحَ العَظم يَنِيح نَيْحاً إذا صلب واشْتد . ونوح عليه الصلاة والسلام قد اشتدّ في دعوة قومه ، فدعاهم ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا . فعدد الأساليب ونوّع الأوقات ، ومع ذلك لم يزدهم ذلك نفورا . ولعل تلك الكلمة من ابن القيم وردت من باب ترادف العبارات . ثم هي محمولة على بكاء الأنبياء على أممهم . وبكاء الأنبياء على أممهم فهذا ليس بأمر مستغرب ، وهو يُصوّر حرصهم صلى الله عليهم وسلم على أممهم . وفي خبر الإسراء الطويل ، قال عليه الصلاة والسلام : فأتيت على موسى عليه السلام فسلمت عليه فقال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما جاوزته ( بكى ) فنودي : ما يبكيك ؟ قال : رب هذا غلام بعثته بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي . رواه البخاري ومسلم . وبكى نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم لما تلا قول الله عز وجل في إبراهيم : ( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ) وقال عيسى عليه السلام : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فرفع يديه وقال : اللهم أمتي أمتي ( وبكى ) فقال الله عز وجل : يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسله ما يبكيك ، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم ، فسأله ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم ، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك . رواه مسلم . وفي سؤال الأخ الفاضل عبد القدوس ملحظ صغير ، لعله – حفظه الله – يأذن لي فيه وهو قوله : فهل النياحة في غير البكاء على الميت مقبولة ؟ وعليه يرد السؤال : وهل النياحة على الميّت أصلا مقبولة ؟ الجواب : قال عليه الصلاة والسلام : الميتُ يعذَّبُ في قبره بما نِـيح عليه . متفق عليه . وروى مسلم عن عبد الله بن عمر أن حفصة بكت على عمر ، فقال عمر : مهلا يا بنية ! ألم تعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الميت يُعذب ببكاء أهله عليه . وقال عليه الصلاة والسلام : أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة . وقال النائحة : إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب . رواه مسلم . وقال عمر رضي الله عنه : دعهن يبكين على أبي سليمان ( خالد بن الوليد ) ما لم يكن نقع أو لقلقة . والنقع التراب على الرأس ، واللقلقة الصوت . رواه البخاري تعليقا . فهذه النياحة المحرمة . والله أعلم . كتبه عبد الرحمن بن عبد الله السحيم assuhaimhttp://www.xx5xx.com/vb/images/mail.gifal-islam.com |
من كتاب ( الفوائد ) لابن القيم رحمه الله , 1- للعبد ستر بينه وبين الله، وستر بينه وبين الناس؛ فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس. 2- للعبد ربٌ هو ملاقيه، وبيت هو ساكنه؛ فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه. 3- إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله، والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها. 4- الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة؛ فكيف بغم العمر؟ ! 5- محبوب اليوم يعقب المكروه غداً، ومكروه اليوم يعقب الراحة غداً. 6- أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها، وأنفع لها في معادها. 7- كيف يكون عاقلاً من باع الجنة بشهوة ساعة؟ . 8- يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين: بكائه على نفسه، وثنائه على ربه. 9- المخلوق إذا خفته استوحشت منه، وهربت منه، والرب - تعالى - إذا خفته أنست به، وقربت إليه. 10- لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله - سبحانه - أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين. 11- دافع الخطرة؛ فإن لم تفعل صارت شهوة وهمة؛ فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده صار عادة؛ فيصعب عليك الانتقال عنها. 12- مَنْ عَظُم وقار الله في قلبه أن يعصيه - وقَّره الله في قلوب الخلق أن يذلوه. 13- مثال تولُّد الطاعة، ونموِّها، وتزايدها - كمثل نواة غرستها، فصارت شجرة، ثم أثمرت، فأكلتَ ثمرها، وغرستَ نواها؛ فكلما أثمر منها شيء جنيت ثمره، وغرست نواه. وكذلك تداعي المعاصي؛ فليتدبر اللبيب هذا المثال؛ فمن ثواب الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئةُ بعدها. 14- ليس العجب من مملوك يتذلل لله، ولا يمل خدمته مع حاجته وفقره؛ فذلك هو الأصل. إنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوكه بصنوف إنعامه، ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه. 15- إياك والمعاصي؛ فإنها أذلت عزَّ ( اسجدوا ) وأخرجت إقطاع ( اسكن ). 16- الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل. 17- لو خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له. 18- إذا عرضت نظرة لا تحل فاعلم أنها مسعر حربٍ؛ فاستتر منها بحجاب ( قل للمؤمنين ) فقد سلمت من الأثر، وكفى الله المؤمنين القتال. 19- اشتر نفسك؛ فالسوق قائمة، والثمن موجود. 20- لا بد من سِنَةِ الغفلة، ورُقاد الهوى، ولكن كن خفيفَ النوم. 21- اخرج بالعزم من هذا الفناء الضيق، المحشوِّ بالآفات إلى الفناء الرحب، الذي فيه ما لا عين رأت؛ فهناك لا يتعذر مطلوب، ولا يفقد محبوب . 22- قيل لبعض العباد: إلى كم تتعب نفسك؟ قال: راحَتها أريد. 23- القواطع محنٌ يتبين بها الصادق من الكاذب؛ فإذا خضتها انقلبت أعواناً لك، توصلك إلى المقصود. 24- الدنيا كامرأة بغيٍّ لا تثبت مع زوج، وإنما تخطب الأزواج؛ ليستحسنوا عليها؛ فلا ترضَ بالدياثة. 25- من أعجب الأشياء أن تعرفه، ثم لا تحبه، وأن تسمع داعِيَهُ ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق عصرة القلب في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره و مناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره، ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه، والإنابة إليه. 26- وأعجب من هذا علمك أنك لا بد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه وأنت عنه معرض، وفيما يبعدك عنه راغب. 27- لما رأى المتيقظون سطوةَ الدنيا بأهلها، وخداع الأمل لأربابه، وتملك الشيطان، وقياده النفوس، ورأوا الدولة للنفس الأمارة - لجئوا إلى حصن التعرض، والالتجاء كما يلتجأ العبد المذعور إلى حرم سيده. 28- اشتر نفسك اليوم؛ فإن السوقَ قائمة، والثمن موجود، والبضائع رخيصة، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يومٌ لا تصل فيه إلى قليل، ولا كثير ( ذلك يوم التغابن ) ( يوم يعض الظالم على يديه ). 29- العمل بغير إخلاص، ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله، ولا ينفعه. 30- إذا حملت على القلب هموم الدنيا وأثقالها، وتهاونت بأوراده التي هي قوته وحياته كنت كالمسافر الذي يحمل دابته فوق طاقتها، ولا يوفيها علفها؛ فما أسرع ما تقف به. 31- من تلمح حلاوة العافية هانت عليه مرارة الصبر. 32- ألفتَ عجز العادة؛ فلو علت بك همتك ربا المعالي لاحت لك أنوار العزائم. 33- في الطبع شره، والحمية أوفق. 34- البخيل فقيره لا يؤجر على فقره. 35- الصبر على عطش الضر، ولا الشرب من شِرْعة منٍّ. 36- لا تسأل سوى مولاك فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه. 37- غرس الخلوة يثمر الأنس. 38- استوحش ممالا يدوم معك، واستأنس بمن لا يفارقك. 39- إذا خرجت من عدوك لفظة سفه فلا تُلْحِقْها بمثلها تُلْقِحها، ونسل الخصام مذموم. 40- أوثق غضبك بسلسلة الحلم؛ فإنه كلب إن أفلت أتلف. 41- يا مستفتحاً باب المعاش بغير إقليد التقوى! كيف توسع طريق الخطايا، وتشكو ضيق الرزق؟ 42- لو وقفت عند مراد التقوى لم يفتك مراد. 43- المعاصي سد في باب الكسب، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. 44- من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل، وبأي شغل يشغله. 45- الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها؛ فكيف تعدو خلفها. 46- الدنيا جيفة، والأسد لا يقف على الجيف. 47- ودع ابن العون رجلاً فقال: عليك بتقوى الله؛ فإن المتقي ليس عليه وحشه. 48- قال زيد بن أسلم: كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا. - قال الثوري لابن أبي ذئب: إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس فلن يغنوا عنك من الله شيئاً. 49- قال سليمان بن داود: أوتينا مما أوتي الناس، ومما لم يؤتوا، وعلِّمنا مما علِّم الناس ومما لم يعلموا؛ فلم نجد شيئاً أفضل من تقوى الله في السر والعلانية، والعدل في الغضب، والرضا والقصد في الفقر والغنى. 50- جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين تقوى الله، وحسن الخلق؛ لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه؛ فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته. 51- من عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس. 52- من عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه. 53- أخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله بنفسه، بل أخسر منه من اشتغل بالناس عن نفسه. 54- ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، والبعد عن الله. 55- خلقت النار؛ لإذابة القلوب القاسية. 56- أبعد القلوب عن الله القلب القاسي. 57- إذا قسا القلب قحطت العين. 58- قسوة القلب من أربعة أشياء، إذا جاوزت قد الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة. 59- كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب – فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ. 60- من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته. 61- القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها. 62- القلوب آنية الله في أرضه، فأحبه إليه أرقها، وأصلبها، وأصفاها. 63- خرابُ القلب من الأمن والغفلة، وعمارتُه من الخشية والذكر. 64- من وطن قلبه عند ربه سكن واستراح، ومن أرسله في الناس اضطرب واشتد به القلق. 65- القلب يمرض كما يمرض البدن، وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة، وجلاؤه بالذكر، ويعرى كما يعرى الجسم، وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة، والتوكل، والمحبة، والإنابة. 66- للقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها: ثلاثة سافلة، وثلاثة عالية؛ فالسافلة دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدوٌ يوسوس له؛ فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول فيها. والثلاثة العالية علم يتبين له، وعقل يرشده، وإله يعبده، والقلوب جوالة في هذه المواطن. 67- إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنِسُوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله. 68- الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة؛ فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبةً، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة، وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامُه خير من وضعه، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ و أطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هماً، وغماً، وحزناً، وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تشمت عدواً، أو تحزن ولياً، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات، والأخلاق. 69- للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه؛ فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف، ولم يوفِّه حقَّه شدد عليه ذلك الموقف، قال - تعالى - : ( وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ). |
| جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:24 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
شبكة المرقاب الأدبية