القصيدة المُخـادعـة
في تاريخ الأدب العربي – كما في أدبنا الشعبي- الكثير من القصص والحوادث التي تُشير إلى تعرض عشرات الشعراء لمشاكل عويصة وعداوات كثيرة جنتها عليهم ألسنتهم، فأطماع الشاعر ومواقفه المُتقلبة سعياً وراء أهوائه توقعه في مآزق خطيرة يستطيع الخروج منها أحياناً، وتؤدي به إلى الهلاك في أحايين كثيرة، وعندما يقع الشاعر في المأزق فليس أمامه في الغالب إلا أحد أبوابٍ ثلاثة: إما أن يُنكر أن القصيدة من نظمه، أو أن يعتذر عنها بقصيدة أخرى كما فعل كعب بن زهير مع أكرم الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكما فعل ذلك أيضاً النابغة الذبياني مع النعمان بن مُنذر بعد قصيدته في المُتجردة، أو أن يلجأ الشاعر إلى الباب الثالث الذي سنتحدث عنه هنا، وهو أشبه ما يكون بالحيلة أو (مخرج الطوارئ) الذي يستطيع من خلاله الشاعر الهرب من مأزقه الذي أوقعه فيه لسانه! فحينما لا يكون أمام الشاعر مجال لإنكار القصيدة (التي سببت له المأزق)، ويضعه القدر وجهاً لوجه مع خصمه قبل أن يُسعفه الوقت بنظم قصيدة اعتذارية، فليس أمامه سوى استحضار قريحته ومُحاولة التحوير في تلك القصيدة أو مُحاولة الزيادة أو الحذف منها للتخفيف من شدة (تركيزها) ومن ردة فعل خصمه تجاهها، وهذا التصرف هو ما فعله الشاعر محمد النميري بعد أن تغزل بزينب أخت الحجاج بن يوسف وقام هذا الأخير بإهدار دمه، فمما يُروى أن الحجاج قد قال بعد أن أمر بإحضاره: "أنا بريء من بيعة أمير المؤمنين، لئن لم يُنشدني ما قال في زينب لآتين على نفسه، ولئن أنشدني لأعفوّن عنه، وهو إن أنشدني آمن"، وعندما مَثُل النميري بين يديه أنشده القصيدة وعمِد إلى تحوير بعض ألفاظها، ففي مطلع قصيدته الأصلية يقول: تضوَّع مسكاً بطنُ نَعمان إذ مشت بهِ زينبٌ في نسوةٍ عطراتِ ويقول في بيت آخر: يُخبئن أطراف البنانِ من التُقى ويقتُلن بالألحاظ مُقتدراتِ وقد تعمد الشاعر أمام الحجاج تغيير بعض الألفاظ والعبارات، فغيّر كلمة (عطرات) إلى (خفِرات)، وعبارة (يقتلن بالألحاظ مُقتدرات) إلى (يخرُجن جُنح الليل مُعتمرات)، ويذكر الدكتور حسين الواد في دراسته المتميزة (علاقة الشعر بسياقه) حول هذه القصيدة أن "العطر المتضوِّع يشي بالوجود ويلفت الانتباه له مثلما يُعلن القتل بالألحاظ عن الوجود ويلفت الانتباه، كلاهما ظهور وخروج من الذات. أما الخفر فانكماشٌ داخل الذات مثلما الاعتمار والخروج في جُنح الليل إخفاء للذات وطلب لسترها". وقد كانت ردة فعل الحجاج بعد أن استمع للقصيدة المُخادعة بصوت شاعرها أن قال: (ويحك، إني أرى ارتياعك ارتياع مُريب، وقولك قول بريء؟ وقد آمنتُك)!. في مُقابل هذه الحادثة نجد في أدبنا الشعبي قصة مشابهة بطلها شاعر الغزل المعروف بصري الوضيحي الذي عاش بين عامي (1200-1260ه) بحسب ما ذكر الباحث ابراهيم الخالدي، وتقول حكاية الوضيحي التي نقلتها بعض مراجع الأدب الشعبي أنه كان شاعراً مُغرماً بالجمال، وعندما علِم بأن أحد الفرسان متزوج من امرأة ساحرة الجمال نزل ضيفاً عليه بقصد رؤيتها، وبعد فترة من إقامته غزا مع ذلك الفارس بطلبٍ منه، وفي الطريق قام بالاحتيال للعودة إلى بيت مُضيفه، حيث قام بغرز إبرة في خف راحلته مما أوجد له عُذراً مُقنعاً للرجوع، وحينما خلا له الجو في بيت زوجة مُضيفه الجميلة تغنى على ربابته بالأبيات التالية: ما تنشدن وش عوّقن عن طريقي اللي منعني عن مرافق هل العوص عنق الغزيّل عند هاك الفريقي كامل وصوف الزين والوسط ممهوص طرفه عليّ من النضايد يويقي لونه يشادي بيضةٍ له برخوص وعند عودة مُضيفه مُباشرة خاطبته زوجته قائلة: "إنشده وش قال بأهلك وأنت غايب"، وحين سأله لم يُحاول الوضيحي الإنكار أو تحوير الأبيات التي أسمعها للزوجة الجميلة، بل أتى بها بنصها وزاد عليها بيتين يقول فيهما: حليلة اللي حاجبه ما يضيقي لا هجّت القطعان والزمل مرصوص حليلته ما تلتفت للعشيقي ماله بغيرك رادةٍ يابن خلبوص فكما نرى فهذان البيتان يُخففان بشكل كبير من وقع الغزل الصارخ في الأبيات الأولى، فأحدهما مدح للزوج بالشجاعة، والآخر مدح للزوجة وإشارة ذكية من الشاعر إلى عفتها وتمسكها بزوجها، ولا تُخبرنا الروايات عن موقف الزوج المباشر بعد استماعه للقصيدة سوى أنه قد منح بصري الوضيحي ما وعده به من الكسب قبل رجوعه من غزوته!. وقبل أن أختم حديثي عن هذه المسألة يؤسفني أن أذكر لكم بأن العديد من الشعراء لم يواتهم الحظ ويتحالف معهم مثلما فعل مع النميري والبصري الوضيحي، ولم يستطيعوا التخلص من مآزقهم التي أوقعوا أنفسهم فيها، وكان مصير الكثيرين منهم الهلاك بطرق مختلفة في شناعتها وقسوتها، وقد ألف الدكتور يحيى الجبوري كتاباً فريداً -يُضاف إلى مؤلفات أخرى في ذات الموضوع- سمّاه (محن الشعراء والأدباء وما أصابهم من السجن والتعذيب والقتل والبلاء)، أشار فيه إلى عدد من الشعراء الذين عُذبوا وقُتلوا بطرق متنوعة، فنعرف أن منهم من أُحرق ومنهم من جُلد وعُذب ومنهم من قُطع عضواً عضواً ومنهم من ذُبح وسُلخ وجهه ومنهم من قُطع لسانه، وغير ذلك من الطرق الفظيعة التي لا يسر أي إنسان أن يسمع بها أو يقرأ عنها.! |
مشكور يا ابو فهد على الموضوع المتميز
تحياتي و اعجابي و انا اخوك اخوكم ش. س. |
طرح مُتميز كعآدتك اخي الكريم
وفعلاً قرأت كثيراً من نهآيآت لشُعرآء كآنت قآسية جداً بسبب اشعآرهم! وفي ايرآدك لقصة "النُميري" اضحكني تغييره للشطر الأخير فيهآ دهآء وآضح:) وشكراً لك على موضوعك المُميز,, تحيتي! |
موضوع رائع وجميل,,
يعطيك العافية على هذا الإبداع المتواصل والجهد الفريد,, تحياتي,, |
كثيرا من الشعراء عانوا الويلات بسبب تلك القريحة .. !
وكم من حروف جرّت الى الحتوف ..! بداح موضوع راقي .. وصياغة جميلة لا هنت .. يا مبدع تحياتي .. |
ابو فهد
قسم بالله انك اضافة لمرقاب الادب لاهنت على هالمواضيع المتميزة المثرية لك فائق احترام وتقدير اخوك ...!! |
:
: بداح فهد السبيعي تواجدك (( مقرون )) بالفائدة .. أينما يحل قلمك .. موضوع جميل وألتقاط رائع وجميل .. وزاوية شعر أكثر من رائعه .. !! لاعدمنا عطائك الجميل .. !! كل الشكر لك .. يـ (( صديقي )) .. !! :) |
كل مشاركاتك اضافه مميزه يا بو فهد
اقبل سلامي واعجابي بتميز فكرك وقلمك ،، .. |
,’,
\\ جميل , يابداح , ماتقدمه , كل التقدير , والشكر , لك يابعدي |
موضوع مثري ومميز
بداح السبيعي تقبل مروي المتواضع |
دمت لهذا القسم
تقبل جل التحايا |
اقتباس:
هلا وغلا يا بو مهنا وألف شكر على مرورك العطر تحياتي لك |
اقتباس:
هلا وغلا يا أخت ريمانا والشكر لكِ على تعليقك .. وكلامك الجميل تحياتي لكِ |
طرح مميز يا بداح ...
لاهنت الاعجاب والتحيّه سوى |
طرح مميز يا بداح ...
لاهنت يالغالي سلامي عليك :) |
اقتباس:
هلا وغلا يا أخ نادر والله يعافيك .. وألف شكر على مرورك العطر تحياتي لك |
،
بارك الله فيك ما تجيب الا السمين من المواضيع الله لا يهينك لك التقدير . |
اقتباس:
هلا وغلا يابو ليان وكلامك صحيح 100% شكراً على مرورك الكريم تحياتي لك |
[align=right]
اعتبرها سرعة بديهه وتمكن لبعض الشعراء تلك المخادعه / استخلصت مما قرأت ان..لسانك حصانك أن صنته صانك :) بداح طرح مميز وافي ..واتمنى أن يستفيد منه الأخرون و شكراً [/align] |
اقتباس:
هلا وغلا يا أخ راكان وكلامك الطيب يُمثل لي الشئ الكثير فأنت أخ وأستاذ نتعلم منه كل يوم تحياتي لك |
اقتباس:
النابغة الشيباني هلا وغلا وسعيد برأيك ومرورك المُبهج دائماً تحياتي لك |
اقتباس:
هلا وغلا يا دكتور وشكراً على كلامك الجميل كجمال روحك تحياتي لك |
| جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 07:59 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
شبكة المرقاب الأدبية