[align=center]
ومنها: انه إذا شهد ذُنوبهُ ومعاصيهُ وتفريطهُ في حقِّ ربه استكثر القليل من نعم ربه عليه، ولا قليل منه؛ لعلمه أن الواصل إليه فيها كثيرٌ على مُسيءٍ مثله، واستقلَّ الكثير من عمله لعلمه بأن الذي ينبغي أن يغسل به نجاستهُ وأوضارهُ وأوساخه أضعافُ ما يأتي به، فهو دائماً مستقلٌ لعلمه كائنا ما كان، مستكثرٌ لنعمة الله عليه وإن دقَّت.
وقد تقدم التَّنبيهُ على هذا الوجه، وهو من ألطف الوجوه، فعليك بمُراعاته، فله تأثيرٌ عجيبٌ.
ولو لم يكن في فوائد الذنب إلا هذا لكفى به، فأين حالُ هذا من حال من لا يرى لله عليه نعمة إلا ويرى أنه كان ينبغي أن يُعطي ما هو فوقها وأجلَّ منها! وانُّهُ لا يقدر أن يتكلم؟ وكيف يُعاندُ القدر وهو مظلومٌ مع الربِّ لا يُنصفهُ ولا يُعطيه مرتبتهُ، بل هو مُغرىً بُمعاندته لفضله وكماله، وأنه كان ينبغي له أن ينال الثُّريَّا ويطأ بأخمصهِ هُنالك، ولكنَّهُ مظلومٌ مبخوسُ الحظَّ!
وهذا الضَّربُ من ابغض الخلق إلى الله، وأشدهم مقتاً عندهُ، وحكمةُ الله تقتضي أنهم لا يزالون في سفالٍ، فهم بين عتبٍ على الخالق، وشكوى لهُ، وذُلٍّ لخلقه، وحاجة إليهم، وخدمةٍ لهم، أشغلُ الناس قلوباً بأرباب الولايات والمناصب، ينتظرون ما يقذفون به إليهم من عظامهم وغُسالة أيديهم وأوساخهم، وأفرغُ الناس قلوباً عن معاملة الله، والانقطاع إليه، والتلذذ بمُناجاته، والطُّمأنينة بذكره، وقُرِّة العين بخشيته والرضاء به.
فعياذاً بالله من زوال نعمته وتحوُّل عافيته، وفجأة نقمته، ومن جميع سخطه.
ومنها: أن الذنب يُوجبُ لصاحبه التقُّيظَ والتَّحرُّز من مصائد عدوَّه ومكامنه، ومن أين يدخُلُ عليه اللصوص والقُطَّاع ومكامنهم، ومن أين يخرجون عليه، وفي أي وقت يخرجون، فهو قد استعدَّ لهم وتأهب، وعرف بماذا يستدفعُ شرهم وكيدهم فلو أنه مرَّ عليهم على غرة وطمأنينه لم يأمن أن يظفروا به ويجتاحوه جملةً.
ومنها: أنَّ القلب يكونُ ذاهلاً عن عدوه مُعرضاً عنه، مشتغلاً ببعض مهماته، فإذا أصابهُ سهمٌ من عدوه استُجمعت له قوته وحاسته وحميته، وطلب بثأره إن كان قلبه حُراً كريماً، كالرجل الشجاع إذا جُرح؛ فإنه لا يقومُ له شيءٌ، بل تراه بعدها هائجاً طالباً مقداماً، والقلب الجبان المهين إذا جرح كالرجل الضعيف المهين إذا جرح ولَّى هارباً والجراحاتُ في أكتافه، وكذلك الأسد إذا جرح فإنه لا يُطاق.
فلا خير فيمن لا مُروءة له بطلب أخذ ثأره من أعدى عدوه، فما شيءٌ أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوه، ولا عدوَّ أعدى له من الشيطان، فإن كان قلبه من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد جد في اخذ الثأر، وغاظ عدوه كل الغيظ، وأضناه، كما جاء عن بعض السلف: إن المؤمن ليُنضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيرهُ في سفره.
ومنها: أن مثل هذا يصيرُ كالطبيب ينتفع به المرضى في علاجهم ودوائهم، والطبيب الذي عرف المرض مباشرة وعرف دواءهُ وعلاجه أحذقُ واخبرُ من الطبيب الذي إنما عرفه وصفاً، هذا في أمراض الأبدان؛ وكذلك في أمراض القلوب وأدوائها، وهذا معنى قول بعض الصوفية: اعرفُ الناس بالآفات أكثرهم آفاتٍ!
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تُنقضُ عُرى الإسلام عُروة عُروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية.
ولهذا كان الصحابة أعرف الأمة بالإسلام وتفاصيله، وأبوابه وطرقه، وأشد الناس رغبةً فيه، ومحبة له، وجهاداً لأعدائه، وتكلُّماً بأعلامه، وتحذيراً من خلافهِ؛ لكمال علمهم بضدَّه، فجاءهم الإسلامُ كل خصلة منه مضادة لكل خصلةٍ مما كانوا عليه، فازدادوا له معرفةً وحبَّاً، وفيه جهاداً؛ بمعرفتهم بضدَّه، وذلك بمنزلة من كان في حصرٍ شديدٍ وضيقٍ ومرضٍ وفقرٍ وخوفٍ ووحشةٍ، فقيَّض الله له من نقلهُ منه إلى فضاءٍ وسعةٍ وأمنٍ وعافيةٍ وغنىً وبهجةٍ ومسرَّةٍ، فإنه يزدادُ سُرورُهُ وغبطتهُ ومحبتهُ بما نقل إليه بحسب معرفته بما كان فيه.
وليس حالُ هذا كمن ولد في الأمن والعافية والغنى والسرور، فإنه لم يشعر بغيره، وربَّما قُيَّضت له أسبابٌ تخرجهُ عن ذلك إلى ضدَّه وهو لا يشعر، وربَّما ظن أن كثيراً من أسباب الهلاك والعَطَبِ تُفضي به إلى السلامة والأمن والعافية، فيكونُ هلاكهُ على يدي نفسه وهو لا يشعر.
وما أكثر هذا الضَّرب من الناس! فإذا عرف الضَّدَّين، وعلم مباينة الطرفين، وعرف أسباب الهلاك على التفصيل كان أحرى أن تدُوم له النعمة ما لم يؤثر أسباب زوالها على علم، وفي مثل هذا قال القائل:
عرفتُ الشرَّ لا لِلشرَّ لكن لتوقِّيهِ .... ومن لا يعرفُ الشرَّ من الناس يقع فيه
وهذه حالُ المؤمن! يكون فطناً حاذقاً، أعرف الناس بالشرَّ، وأبعدهم منه، فإذا تكلَّم في الشرَّ وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته وعرفت طويَّتهُ رأيتهُ من أبرَّ الناس.
والمقصود أن من بُلىَ بالآفات صار من أعرف الناس بطُرُقِها، وأمكنه أن يَسُدَّها على نفسه وعلى من استنصحهُ من الناس ومن لم يستنصحهُ.
ومنها: انه سبحانه يُذيقُ عبده ألم الحجاب عنه والبعد وزوال ذلك الأُنس والقُرب؛ ليمتحن عبده، فإن أقام على الرضا بهذه الحال ولم يجد نفسه تطالبُهُ حالها الأول مع الله بل اطمأنت وسكنَتْ إلى غيره: عَلِمَ انه لا يصلُحُ، فوضعه في مرتبته التي تليق به، وإن استغاث استغاثة الملهوف وتفلق تفلق المكروب، ودعا دعاء المضطر، وعلم أنه قد فأتتهُ حياتهُ حقاً فهو يهتف بربه أن يرد عليه حياتهُ ويعيد عليه مالا حياة له بدونه: علم أنه موضع لما أُهل له، فرد عليه أحوج ما هو إليه، فعظمت به فرحته، وكمُلت به لذته، وتمت به نعمته، واتصل به سروره، وعلم حينئذ مقدارهُ فعض عليه بالنواجذ وثنى عليه الخناصر، وكان حاله كحال ذلك الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المُهلكة إذا وجدها بعد مُعاينة الهلاك.
فما أعظم موقع ذلك الوجدان عنده!
ولله أسرارٌ وحكمٌ ومُنبَّهاتٌ وتعريفاتٌ لا تنالها عقولُ البشر.
فَقُل لِغَليظِ القلبِ وَيْحَكَ ليسَ ذا .... بِعشّك فادْرُجْ طالباً عُشَّكَ البالي
ولا تَـكُ مِمَّن مدَّ باعاً إلى جَنَىً .... فَقَصَّرَ عـنهُ قالَ ذا ليسَ بالحالي
فالعبدُ إذا بُلى بعد الأنس بالوحشة، وبعد القُرب بنار البعاد اشتاقت نفسُه إلى لذَّةِ تلك المُعاملةِ، فحنَّت وأنَّت وتصدَّعت وتعرَّضت لنفحات من ليس لها منهُ عوضٌ أبداً، ولا سيَّما إذا تذكرت بِرَّهُ ولُطفه وحنانه وقُربَهُ، فإن هذه الذكرى تمنعُها القرار وتهيَّج منها البلابل، كما قال القائل- وقد فاته طواف الوادع فركب الأخطار ورجع إليه-:
ولَمَّا تَذكَّرْتُ المنازلَ بالحِمى .... ولمَ يُقْضَ لي تَسليمةُ المُتزوَّدِ
تَيَقَّنْتُ أنَّ العَيشَ ليسَ بِنافعي .... إذا أنا لَم انظُر إليها بموعـدِ
وإن استمر إعراضُها ولم تحن إلى معهدها الأول، ولم تُحِسَّ بفاقتها الشديدة وضرورتها إلى مراجعة قُرْبِها من ربها؛ فهي ممن إذا غاب لم يُطلب، وإذا ابق لم يُسترجع، وإذا جنى لم يُستَعتَبْ.
وهذه هي النُّفوسُ التي لم تُؤهَّل لما هنالك.
وبحسب المعرض هذا الحرمانُ، فإنَّهُ يكفيه، وذلك ذنبٌ عقابهُ فيه.
يتبع
7
[/align]
|