• ومن حقوق العلماء أيضا ولعله من أعظم الحقوق الدعاء لهم والاستغفار لهم، وقد تقدم الحديث في قوله (وَإِنّ العَالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السّمَاواتِ وَمَنْ في اْلأَرْضِ) وثبت في سنن أبي داود(3) أو لعله الترمذي عن أبي أمامة ( أن النبي ( قال«إِنّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ الأرض حَتّى النّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتّى الْحُوتَ لَيُصَلّونَ عَلَى مُعَلّمِ النّاسِ الْخَيْرَ» ومعنى (يُصَلّونَ) يعني يدعون، وثبت أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال«وَمَن صَنَعَ إِلَيْكُم مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ, فإِنْ لَم تَجِدُوا ما تُكَافِئُوه بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتّى تَرَوْا أَنّكُم قَدْ كَافأْتُموهُ» وأي معروف أعظم علينا في هذه الدنيا من معروف العالم؛ الذي يدلنا على ما يسعدنا في الدين والدنيا.
• ومن حقوقهم أيضا ما جاء عن على ( أنه قال -كما ذكره ابن جماعة وقبله ابن عبد البر- أنه قال: من حق العالم عليك أن تُسَلِّم على القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرن بيدك إليه، ولا تغمز بعينك، ولا تقولن قال فلان خلاف قوله، ولا تغتابَنَّ عنده أحد، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم لخدمته، ولا تسارّ في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا الكسل، وتشبع من طول صحبته؛ فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء. ولقد جمع ( في هذه الوصية ما فيه الكفاية.
فهذه جملة من حقوق العلماء علينا، وهي كثيرة، نسأل الله أن يوفقنا للعمل بها، فمتى ما عملنا بها مخلصين لله تعالى فقد قمنا بواجبنا تجاههم، وهيأْنا أيضا لهم الجو لإعطائنا مزيدا من علمهم ومعارفهم، ولذلك يقول ابن جُريْج: لم استخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به. فحسن المعاملة مع العالم تشرح صدره، فينعكس ذلك على إعطائه، فيعطى عطاء جيدا مثمرا، كما أن سوء معاملته أو عدم التأدب معه يؤثر على إخراجه للمعلومات، لذلك يقول الزهري: كان سلمةُ يماري ابن عباس فحرم بذلك علما كثيرا. وإذا قد بينا بعض حقوقهم علينا فإننا ننتقل إلى نقطة أخرى وهي:
مشكلة القدح في العلماء
تلك المشكلة التي كان للمستعمرين يد كبيرة في بثها بين صفوف المسلمين؛ ليقطعوا بها الصلة الوثيقة بين المسلمين وبين علمائهم، وقطعها قطع للدين، إذْ العلماء هم المصدر لبيان شرع الله سبحانه وتعالى في هذا الزمن، وليس عجبا أن يصدر القدح في العلماء من أبناء المستعمرين كالعلمانيين والشيوعيين والبعثتين، وإنما العجب كل العجب أن يصدر هذا القدح ممن انتسب إلى الإسلام من الجماعات الحزبية؛ فإنهم الآن وللأسف الشديد يحملون لواء القدح في العلماء والاستخفاف بهم، تارة يرمونهم بأنهم علماء للدولة، وتارة بأنهم مشايخ حكومة، وتارة بأنهم تصاغ لهم القرارات، وأخرى بأنهم علماء حيض ونُفاس، وهلم جرا.
وهم في هذا القدح بين رجلين:
•إمّا مغرض له أهداف ومقاصد سيئة.
•أو مخدوع مغرَّر به، يُصاغ له باطل في قالب الحق فيَخاله صادقا.
والشبه التي ينخدع بها هؤلاء فيُلصق بالعلماء مثل هذه الفِرَاء, يمكن أن نكشفها، لكن الوقت لا قد يتسع لكشفها كلها، لكن أقتصر على أمرين لعل فيهما إزالة لما قد يتسّرب على أذهان بعض الناس من هذه الشائعات والمفتريات.
فأولا: نقول إنّ العلماء يقيدون تصرفاتهم بالكتاب والسنة وبالمصلحة الشرعية المعتبرة، بينما تلك الجماعات الحزبية تنطلق في الجملة من العاطفة الإسلامية والعقل المحض، وقد تتلمس شبها من الشرع للتدليل على منهجها، فالأصل المنهج العاطفي أو ما يسمي أيضا "بالشعور الإسلامي" ثم تلوى أعناق النصوص له، أو تورد معزولة عن فهم سلفنا الصالح، فمثلا العلماء يرون أن مناصحة ولي الأمر تكون على الطريقة النبوية, فيتمثلون لقول النبي ( فيما رواه ابن أبي عاصم بإسناد صحيح عن عياض بن خلف: «مَن أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبْده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك وإلاّ كان قد أدى الذي عليه»، يقول أئمة الدعوة رحمة الله عليهم في ذلك كما في الدرر السنية الجزء (7): وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام، فالواجب فيها منا صحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس، واعتقادُ أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا -أي الاعتقاد غلط- فاحش وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتّب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا كما يعرف ذلك من نور الله قلبه وعرف طريقة السلف وأئمة الدين. فهذا الأمر يوضح لنا أن ما يرضى به العلماء من المداهنة أو عدم الإنكار أو نحو ذلك أمر باطل؛ لأن الذي ينتقدهم هو يتصور أن الإنكار يجب أن يكون من على رؤوس المنابر، وأمام الناس ويكون بالتشهير ونحو ذلك، وهذه نظرة لا يقرها الشارع بدلالة مثل هذا النص الصريح الواضح، فالعلماء يتبعون مثل هذا النص، ويجعلون مناصحتهم سرية، ولذلك يثور الشباب، ويقولون: العلماء لا يتكلمون، العلماء لا ينكرون. وهلم جراً، وهذا قد حصل نظيره في زمن عثمان (، فإن التابعين جاؤوا أو بعضهم إلى أسامة بن زيد فقالوا له: أولا تدخل على هذا الرجل فتكلمه -يعنون عثمان (، فقالوا- أرأيتم أني لا أكلمه إلا أسمعكم، والله لقد كلمته فيما بيني وبينه دون أن أفتح هذا الأمر أو دون أن أكون أول من فتح هذا الباب. يقول الحافظ وغيره: هذا الباب يعني باب الفتنة. يعني أن أول الفتنة إنما بالكلام ثم تدرج حتى تكون باليد، وجاء عن ابن عباس كما ذكره ابن رجب في ”جامع العلوم والحكم“ أنّه سأل سعيد ابن جبير عن مناصحة الحاكم فقال: فإن كنت ولا بد فاعلا ففيما بينك وبينه. فهذا وجه لعله يزيل ما ترسّب في أذهان من نظن فيهم الخير، وإلا فمن غلب عليه الهوى فهذا لا حيلة فيه؛ لأنك لو تلوت عليه النصوص من القرآن والسنة لم يقتنع إلا بفعله.
أمر ثاني أيضا لعله يزيل من ترسب في أذهانهم، نرى فيهم الخير ونظن فيهم إنشاء الله الخير، هو أنّ العلماء رحمة الله تعالى عليهم لا يرون تلازما بين إنكار المنكر وبين تغيير المنكر -وهنا نرجو الانتباه قليلا- العلماء لا يرون تلازما بين إنكارهم لمنكرات الولاة وبين تغييرها، فإذا أنكروا عليهم فقط برأت ذمتهم، وتغيرها ليس إليهم، فبمعنى أخر -نقول للتوضيح- نقول: إن العلماء يأمرون، ولكن لا يملكون شرعا ولا قدَرا سلطة التنفيذ مع وجود الحاكم المسلم. أمّا تلك الجماعات التي تثير مثل هذا الشغب وتُلصق هذه الفِرَى بالعلماء فهي ترى التلازم بين إنكار المنكر وبين تغيره، فنزاهم يرددون أنكارنا ثم أنكرنا ولم يغيروا شيئا، وهذا خطأ مخالف لنصوص السنة التي وردت في معاملة الحاكم الذي لم يكفر، فتأمل معي أيضا هذا الحديث وما جاء في صحيح مسلم عن أم سلمة أن رسول الله ( قال«إنّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِىءَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَفَلاَ نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لاَ، مَا صَلّوْا» معنى (كَرِهَ) َأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ، ومعنى (أَنْكَرَ) أي أنكر بقلبه كما جاء ذلك في صحيح مسلم، وتقدم قبل قليل الحديث الذي فيه (فإن قبل منه فذاك وإلا فقد أدى الذي كان عليه)، فهذه هي نظرة علمائنا رحمة الله عليهم في مثل هذه القضايا، فمن قدح فيهم ورماهم بالمداهنة وقلة العلم فإنما أوتي بجهله من قبل الأحكام الشرعية وبالنصوص النبوية، ولا ريب أيها الإخوان أنّ رمي العلماء بهذه الفَرِية جُرْم شنيع وصدٌّ عن سبيل الله تعالى.
يقول أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى كما في الجزء السابع من الدرر السنية: ومما أدخل الشيطانُ على بعض المتدينين اتهام علماء المسلمين بالمداهنة، وسوء الظن بهم، وعدم الأخذ عنهم، وهذا سبب حرمان العلم النافع.انتهي كلامهم رحمة الله عليهم.
والعجب انطلاق البعض في قدح العلماء من جانب آخر لا يتطرق إليه القدح عند السَّالمين من الهوى، فالذي يقدح في العلماء لأنهم لم يبينوا للناس أمور السياسة، فيقول مثلا: ما هي قيمة العالم إذا لم يبين للناس قضاياهم السياسية، التي هي من أهم القضايا التي يحتاجون إليها، والتي تتعلق بمصالح الأمة. فهذا القائل ما أصاب في القدح؛ لأن العلماء كتبوا، وألفوا، ودرسوا السياسة الشرعية التي جاء بها الشرع ووضحها ونطقت بها النصوص، وهذا هو المطلوب منهم شرعا، أما إنْ كان مراده بيان الأخبار السياسية في المصطلح الحديث، كوقوع حرب في المكان الفلاني، وسقوط مدينة كابل من أيدي الشيوعيين إلى أيدي المشركين، وتسجن واعتقال فلان وفلان، فهذا ليس من وظيفة العلماء المطالبين بها، وإنما هم مطالبون ببيان الأحكام الشرعية في جمع القضايا التي تعرض في المجتمع أو تقع في المجتمع، فإن عليهم أن يبنوا حكمها الشرعي، لذلك هل تجد الإمام أحمد أو ابن تيمية أو ابن القيم أو ابن عبد الوهاب يتكلمون في مثل هذه السياسات، يتكلمون في مثل الآن أحوال السودان، أحوال البوسنة والهرسك؟ لا؛ لأنّ هذه بالجملة ووظيفة ولي الأمر أومن يُنيبه في ذلك، ولكي يكون الكلام أدق فإني أقول: إنّ الغالب بل الأغلب على علماء الأمة عدم الخوض في هذه الأمور، وإن سألت عن الحجة فهذه مؤلفاتهم تفصح عن ذلك، نعم يحثون الناس على الجهاد وعلى الإنفاق، ونحو ذلك، أما أن يكون العلماء وكالة أنباء، فهذا ننزه عنه العلماء.
فعلماؤنا رحمة الله عليهم وحفظ الله حيهم يعتقدون شرعية الدولة، ووجوب السمع والطاعة لها، وبما أنهم كذلك فهم يدركون أن هذه الأمور من حقوق الولاة بالجملة فلا يخوضون فيها، وأما من يخوض فيها وينتقد العلماء وإذا لم يتكلموا فيها، أو من يوجبها على أعيان العلماء وطلبة العلم، فيقرنها بمسائل العلم الضرورية فهو مفتون مُغرض أو جاهل مفرط.
يتبع
|